خطيب الحي يطالب الصبيان باللغة العربية في الصف الخلفي بالمسجد بالصمت في حرم الخطبة، وأنا أفرقع أصابعي لهم تنبيها على ما يقوله وتوصيلا، فيستمر هو في زجرهم ويزجر المفرقع بشكل غير مباشر مذكرا أن اللغو في الصلاة يسقط أجر الجمعة وكأن مساعدة الإمام لغوٌ.
لعل من المناسب في المنابر الحد من التأويلية التنفيرية فأحيانا وعن حسن نية يمزج الدعاة والأئمة بين فضيلتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة؛ والتنفير والتجاوز لحقوق المنهي أو المأمور من جهة أخرى. مغفلين أن النهي والأمر فعلان يتطلبان شرعية ومصداقية وأداة؛ وأن أفهام العلماء المتبصرين وصلت إلى أنهما في أربعة أخماسهما من اختصاص ولاة الأمور.
فلا الأطفال وعوا حديث إمامنا، لأن تمتمات الصغار في المساجد سيمفونية مثيرة أزلية تتطلب جهدا مركبا من البيت والمدرسة والشارع لفهمها وعلاجها وقد عمت بها البلوى وسكت عنها الرشداء. ولا الرشداء استساغوا إلغاءه لجمعتهم لأن موعد نشر الصحف خارج في عقيدتنا التيسيرية عن الإطار الزمني للدنيا.
رغم ذلك كان الحديث عن العدل ومضامينه ومضاميره مدار خطبتنا اليوم، وقد أجاد الرجل وأفاد استدلالا واستدعاء.
كنت وأنا طفل أحضر المسجد وجلا خائفا ولكني أيضا فرح، ولربما التفت يمينا ولربما التفت شمالا ولربما لغوت ، وضربت غيري في حالة سجود ولربما تلقيت صفعات من كبار أهل اللغو؛ ولم يكن التعاطف مكثفا مع دموع الأطفال الفساق أمثالي حين يخترقون جدار خشوع ليسوا بالغي كنهه.
نبش في حادث اليوم أشياء؛ فمن منظومتنا الأمثالاتية مثل يضرب للفراغ نصه: (أسحفا من فيران لمسيد)، أي أكثر فراغا من فئران المسجد، نظرا لأنها لا تتمتع بتلك الفرصة في العبث بالمخازن والطعام فالمساجد دور للعبادة لا طعام فيها؛ يزورها المؤمنون وفق كتاب موقوت يحملون أوزارهم ومناجاتهم واستغفارهم ثم ينصرفون لتغلق مجددا حتى موعد قادم.
زوارها الدائمون قلة وضيوفها أكثر في الحواضر الحية بحركة الناس وعقارب الساعات منهم في القرى.
ولربما نساهم من حيث ندري ولا ندري في هجرانها وتهجير أهلها وإفراغها بمسلكيات يشترك فيها المصلون أئمة ومأمومين.
يخلع فيها البعض سراويلهم، ويأتونها وقد تملكهم المرض زكاما وعطاسا وحمى، مما يترتب عليه مرور وعدوى لهم ولغيرهم. وقد يصادفك أحد المصلين وهو يدعو في السر بشكل مسموع بمجزرة لفظية موسوِسة.
وأما المساجد نفسها فهي الأخرى رغم وفرتها - لله الحمد - لكننا أهملناها فراشا وجدرانا ومرافق، نوافذها وأبوابها وتهويتها غير معيارية، وأمكنتها غير مختارة في الغالب، إذ أن معظم المساجد في نواكشوط بنيت في ساحات عمومية موجهة لتكون متنفسا لأطفال الحي وعائلاتهم أو وضع القمامة والمهملات. بدل أن يكون المسجد جزءا من الحي حاله كحال أي بيت موقر من أجمل بيوت الحي، تسهل العناية به وتحلو جيرته.
إضافة إلى أن مساجدنا المحترمة؛ في جلها ممتلكات شخصية وتتسمى بأسماء بانيها فردا كان أو جماعة، حتى أنها تتخذ أسماء أئمتها أسماء لها. ويحز في النفس أن يكون معظم المصلين خصوصا في أوقات الحر بلباس النوم وقت الفريضة.
كما أنها تتحول في يوم الجمعة إلى محصليات لبعض السائلين المصلين الذين تسللوا للصفوف تاركين غيرهم عند الباب، لكم أكره هؤلاء خصوصا حين يكون غيرهم ينتظر المحسنين عند الخروج من الفريضة؛ لأنهم يسابقون غيرهم في المسألة ويزاحمون ضعفاء مثلهم بقوة احترافية استخدمت في غير محلها.
ناهيك عن طريقة الأذان والإقامة والتلاوة التي هي في أغلب أحوالها بعيدة من التبشير والشد والترغيب.
في السنغال القريبة تنتظم نساء الحي المجاور للمسجد صباح الجمعة من كل أسبوع لتنظيف المسجد وتعطيره وإخراج أفرشته المصونة لصلاة الجمعة، وفي بلادنا قليلة وضعيفة تلك الإرادة في إدارة وولوج المرأة أصلا للمسجد. وهي لعمري وثنية لا تمت للعصر ولا للمنطق الشرعي بصلة. فنحن قوم حين تموت نساؤنا نذكر من محاسنهن النقاء والتقى وإذا مات رجالنا نترحم على عمارتهم للمساجد وإنفاقهم، وكأن قدر المرأة فينا الفقر والبقاء في البيت، وقدر الرجل الغنى وحث الخطى للمساجد.
أما القرار السياسي لدينا فهو يكاد يكون تاركا للمسجد، متخليا عنه رغم إحصاء الأئمة والمساجد في البلد من قبل الجهات الرسمية ورصد تعويض للأئمة على محدوديته، لكن هبة وطنية من أجل المسجد تظل مطلبا ملحا، لتكييفها في عز الصيف وتدفئتها شتاء والعناية بها وترميمها وتقنين خطبها ومكتباتها والصرف على أحوالها والقائمين عليها.
رغم أن وزارة الوصاية هي أكبر مشغل للمتدينين في القطاع العام وذلك موضوع آخر يستحق علاجا واستظهارا آخر.
أرتاح للخطب المكتوبة حين أرى ورقة لدى الإمام لسببين:
أحدهما أن ما كان مكتوبا هو محدود ومحضّر،
والآخر أن الخُطب المرتجلة قد تنساق لإكراهات الارتجال وتتساوق مع مؤثرات المحيط الوقتي والمناخي والنفسي فتتحول إلى لبوس آخر غير الوعظ والإرشاد والتوجيه.
ما لم تظهر تلك الهبة في خطط العمل الحكومي مالا وتخطيطا قد نشهد اضمحلالا لدور المسجد والإمام والمأموم وتعاظما لدور الصبية الفساق والفئران المتفرغين في بيوت الرحمن التي أمرنا بعمارتها وتخصيصها لله وحده