عن الأصمعي قال: لما حضرت الحجّاج الوفاة أنشأ يقول:
رَبِّ قَدْ حَلَفَ الْأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوا *** بِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ سَاكِنِي النَّارِ
أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ ؟!! وَيْحَهُمُ *** مَا عِلْمُهُمْ بِعَظِيمِ الْعَفْوِ غَفَّار
قال: فأُخبِرَ بذلك الحسن فقال: تاللهِ إن نجا فبِهِما.
وقال حين حضرته الوفاة: "اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل".
وعن عمر بن عبد العزيز أنّه قال: ما حسدتُ الحجّاج عدو الله على شيء حسدي إيّاه على حُبهِ القرآن وإعطائه أهله وقوله حين حضرته الوفاة: "اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل".
ولما قيل للحسن البصري: إن الحجاج قال عند الموت كذا وكذا قال أقالها؟!! قالوا: نعم. قال عسى!!
ويقول الأصمعي: ما كان أعجبَ الحجّاج، ما ترك إلا ثلاثمائة درهم!! ومصحفا، وسيفا، وسرجا، ورحلا، ومائة درع موقوفة للجهاد.
هذا الحجاج ابن يوسف الثقفي صاحب المقولة الشهيرة!: "أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه، ومن استطال أجله فعلي أن أعجله، ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه... إني أنذر ثم لا أنظر وأحذر ثم لا أعذر وأتوعد ثم لا أعفو".
أول من رمى الكعبة بالمنجنيق، ومن صلب عبد الله ابن الزبير أول مولود في الإسلام، وآذى فيه ذات النطاقين حتى وصلتنا كلماتها الشامخة ولهجتها المليئة بالعزة وعطف الأمهات: أما آن لهذا الفارس أن يترجل..!
هذا الحجاج نفسه بجبروته وطمسه معالم القداسة وإهانته لبدايات التأسيس لم يحرمه سوء عمله من تلمّس أهل الحق له أحسن المخارج..!
2 - الذاكرة البشرية متعلقة في معظمها بذنوب الآخرين وسوء فعلهم، فمن شبه المستحيل أن تجد أي بشري ارتكب خطئا في مكان ما وعلم به أهل تلك الأرض إلا توارثوه جيلا بعد جيل.
يحكى أن رجلا أُلقي القبض عليه في إحدى القبائل وهو يسرق فعلمت القبيلة بأمره وأصبحوا يتهامسون بعد أن أُعفي عنه فقرر أن يهاجر لكي ينسى الناس أمره وبعد عشرين عاما عاد إلى القبيلة فصادفه طفل صغير فسأله ابن من أنت فقال أنا ابن فلان فقال له كيف والدك فقال له أصابه الشلل فسأله منذ متى؟ فأجاب منذ عام سرقة فلان -يقصده هو-....!
المثير للسخرية أن ذنوبنا لا تعلق بذاكرتنا بقدر ما تعلق بها ذنوب غيرنا.. موازين العدل الفطرية لا نقوم بتوظيفها داخليا إنما نتلذذ بتطبيقها على الآخرين فنمنحهم صكوك الغفران بحسب عاطفتنا تجاههم أو بحسب عدم انتمائهم لدوائرنا الضيقة. تصنيف الذنب شيء ربما يدخل في نطاق التطفل البشري بحكم النسبية والتأثير المادي المباشر على مصالح الأشخاص، أما محاولتنا التحكم في قبول الله لتوبة العبد من عدمها فتلك والله أدهى وأمر...!
3 - استسهال الناس للفتوى باسم الله أصبح مدعاة للتعجب والسخرية، فتجد متشددا في الدين ظاهرا، وليكمل زخرف قوله، ما إن تحكي له عن ذنب اقترفته حتى يبادرك أعوذ بالله من أهل النار، وفِي درجة أخف من ذلك يقول لك اذهب واستغفر "لعل" الله يغفر لك، وعلى وجهه ترتسم علامات القنوط لك، وتقرأ في عينيه خزيك وعارك! وكأن الله لم يقل جلّ من قائل في سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء}.
وكأن الإقرار بالذنب رياء وكأن الحديث عن رحمة الله التي وسعت كل شيء نفاق في نظر بعض الناس!
ثم إن توبة كعب ابن مالك والغامديّة وماعز ابن مالك وغيرهم ممن أذلهم الذنب، وقرروا كسره في نفوسهم، والتغلب عليه، من أجمل ما يروى ويحكى في جمال الاستفاقة من سكرة الذنب، والعودة بعد كل تيه وخطأ، وتصفية النفس، وما يتأتى من عظمة تعامله صَلى الله عليه وسلم مع كل من عاد من غفلته، فيستقبله بمودة وحنان وشوق للقاء بعد فراق، لمّت شمله توبة نصوح فتتمنى لو أنك كنت ممن أذنب وعاد بعد كل مرة ليستقبله سيد ولد آدم بكل حفاوة ومحبة. ألم يقل وهو الذي لا ينطق عن الهوى: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ".
نبيلة بنت الشيخ محمد الحسين