من المعروف أن الحياة السياسية في موريتانيا بدأت قيمية ومبدئية وانتهت براجماتية نفعية.
وبالتالي تفككت الروابط المنطقية بين العقل السياسي والوعي الجماهيري، وهو ما أدى - ضرورة - إلى تآكل الدور التنموي للوعي السياسي.
هذا الفراغ حدث بشكل مفاجئ ( باعتبار الأعمار اللازمة للتحولات القيمية).
ولذلك احتلته البنية التقليدية التي جاهدت لمقاومة الصدمة التي أحدثها صوت اليسار الموريتاني في بداية عهد الدولة، والتيار الإسلامي لاحقا.
وما يمكن استنتاجه اليوم، هو أن البنية التقليدية قد انتصرت على البنية المبدئية.
أعتقد أن نظام الرئيس غزواني كان قد بدأ في تصحيح مسار الوعي السياسي حين تجاهل دعم الداعمين، وانتصر لمبدأ الدولة المدنية بجعل مؤسسة الرئاسة في الموقع الوطني وعلى مسافة واحدة من كل الأطياف.
وذلك من خلال تغيير وجهة الأعطيات ( التوظيف والمشاريع) إلى الفئات المحرومة عامة وايضا للمعارضة بشكل نسبي.
لكن إصلاحا كهذا يشبه محاصرة الماء من الناحية التقنية.
فلا بد للماء الهادر من تدمير حصون وموانع جديدة حين يسد مجراه المعتاد.
لذلك من المتوقع أن يتكثف الخطاب والتوجه النفعيين في فضاءات مثمرة.
فبعد أن أفلس سوق المعارضة ( تسمين الموقف) وسوق الموالاة ( بيع الدعم) ولم تعد للمواقف السياسية أثمان كالتي اعتادتها، لم يعد هناك غير خيار التواجد في موقف ثالث وهو سياسة الحياد المؤقت التي تتحرر من أعباء المولاة وحرج المعارضة معا.
خط كهذا سيكون صالحا للبيع بأثمان مجزية في سوق الترجيحات السياسية والمتاجرة في سوق المخاوف الاستحقاقية.
فالكتل السياسية الموالية ليست راضية بما يكفي للدخول في الانتخابات دون الدخول في مفاوضات قاسية ستكلف النظام ثمن ثلاث سنوات من تجاهل الداعمين
والكتل المعارضة ليست في وضع يسمح لها بالتلويح بقوة الأتباع وهي التي تقاعست عن الحشد والتوعية والعمل الميداني طوال السنوات الماضية.
والقارئ لمناخات الرأي العام لن تخفى عليه بوادر ميلاد سياسي كبير لقوى ثالثة تظهر احترام النظام وتنتقده بأسلوب ينتمي لحالة الميلاد تلك.
وقد سك هذا المولود القادم قاموسه السياسي ومهدت كل الظروف لميلاده بشكل طبيعي .
فعلى مستوى القاموس، تم توليد الأساليب والمفاهيم.
فجل الفاعلين السياسيين لا يخفون احترامهم للرئيس، لكنهم يعبرون عن سخطهم من خلال اتهام اتباعه وحاشيته وطواقمه بعزله عن الواقع بل والتآمر على تعهداته وعرقلتها.
أما حين تتحتم المباشرة فالنقد اللاذع يكون من نصيب حكومته واتهامها بالعجز عن تنفيذ التزاماته أو العمل وفق رؤيته.
صحيح أن عمر النشأة السياسية يكون في العادة طويلا نسبيا،ولكن قرب الموسم الانتخابي سيكون كافيا لإحداث الطلق الأخير لميلاد هذا الخط وخروجه للنور.
أما إصرار الرئيس على إعادة تكرار عبارة " الإنصاف" فهو دليل آخر على قوته وقدرته على مواجهة " أنصار السياسة بأنصار الدولة"، فحسب العارفين به فإنه رجل ليس ممن يضعون النتائج في الخاتمة بل ممن يضعونها مع المقدمة وضمن هيكلة الخطط .
أما عن التحديات التي سيواجهها النظام فتتعلق أساسا بتوحيد الرأي العام حول مفهوم " الانصاف " إذ أنه سيستدعي تحديد المحرومين من زوايا أخرى غير الزاوية الوطنية ( المحرومون من ثمن الموالاة، والمحرومون من الفساد... الخ).
محمد افو