زمن العرب في صقلية.. رحلة الشعر من ظلال الأمراء إلى بلاط النورمان

ثلاثاء, 24/09/2019 - 12:13

أضحت جزيرة صقلية الإيطالية في البحر المتوسط محضنا لثقافة عربية مزدهرة، استمرت حتى بعد سيطرة النورمان عليها عام 1072 للميلاد؛ واستوطنت القصيدة العربية الجزيرة بدءا من القرن التاسع وحتى القرن الثاني عشر، بما في ذلك حكم الملوك النورمان وفي أوقات الاضطرابات السياسية الكثيرة التي شهدتها الجزيرة.

وازدهر الأدب العربي في الجزيرة المتوسطية في زمن أمراء بني كلب والنورمان من بعده على حد سواء، وحرص أمراء بني كلب العرب على إحياء الشعر والقصائد لتعزيز التماسك في بلاطهم المهدد بالخصومات الاجتماعية والطائفية والعرقية. وفي وقت لاحق تنافس الشعراء العرب مرة أخرى في بلاط ملك النورمان روجر الثاني الذي اشتمل على أدباء مسيحيين ومسلمين على حد سواء.

تحولات صقلية
عاشت جزيرة صقلية ثلاثة أحداث كبرى في الزمن العربي غيرت من أحوالها، هي: حكم الجزيرة بواسطة الأغالبة ثم الفاطميين وسلالة بني كلب، و"الفتنة الصقلية" التي أعقبت انهيار إمارتهم، وأخيرا سيطرة النورمان على الجزيرة.

ونجت القصيدة من هذه الاضطرابات المثيرة والتغيرات في الوسط الاجتماعي والسياسي، وحافظت على قيمتها كعملة اجتماعية في مجتمع مليء بالخلافات العرقية والطائفية والسياسية.

وأدت التمردات والصراعات بين الطوائف الصقلية المختلفة إلى انقسامات اجتماعية عميقة، عززتها التدخلات العسكرية من شمال أفريقيا وجنوب إيطاليا، والتنافس بين طبقات النبلاء والفلاحين وسكان المدن من جهة، وبين العرب والبربر من جهة أخرى.

استفادة
ويرى الأكاديمي الأميركي نيكولا كاربنتيري في دراسته عن القصيدة العربية في جزيرة الصقلية، أن الأمراء الكلبيين والنورمان على حد سواء استفادوا من القصيدة العربية لتعزيز طموحاتهم الملكية، وأجبرهم المشهد الاجتماعي المتنوع وغير المتجانس في الجزيرة ووقوعها على حافة الإمبراطوريتين الإسلامية والمسيحية، على توظيف الثقافة العربية والقصيدة الشعرية في بلاطهم لتعزيز التماسك الاجتماعي وقيم التعايش في أرض قسمتها الخلافات الطائفية والعرقية والسياسية العميقة.

وخلال مئة عام من حكم الكلبيين، حققت صقلية المسلمة درجة عالية من الحكم الذاتي، وفترة من الاستقرار السياسي النادر وازدهارا ثقافيا لا مثيل له بما في ذلك رعاية الأدب والشعراء، وتنعكس هذه الإنجازات في روايات المؤرخين العرب في العصور الوسطى بحسب كاربنتيري في دراسته "الأدب كعملة اجتماعية في صقلية".

وجذب الكلبيون إلى بلاطهم في باليرمو أروع العقول من جميع أنحاء صقلية وشمال أفريقيا، ويبدو من بقايا الشعر العربي الذي يعود لهذه الحقبة أن بلاطهم تحدث مزيجا من لهجات القيروان وبغداد.

وصاغ القصائد شعراء عرب صقليون تشبثوا بسمات القصيدة التقليدية، واستشهد الأكاديمي الأميركي بكتاب ابن القطاع الصقلي الذي جمع فيه مجموعة من القصائد وسماه "الدرة الخطيرة في شعراء أهل الجزيرة".

القصائد الصقليّة
ورغم أن التفكير في الأدب العربي الصقلي يقود مباشرة لأدب الرحلات عند الرحالة ابن جبير وخرائط الجغرافي الإدريسي اللذين عاشا في صقلية في زمن الحكم النورماني لها بعد سقوط الإمارة العربية، فإن تاريخ الشعراء والأدباء العرب في البلاط النورماني لا يحظى بذلك القدر من الاهتمام، ويشير كاربنتيري كذلك لتقليدية شعر بلاط الأمراء الكلبيين وتأثره الشديد بالقصيدة الجاهلية وسماتها الأدبية.

وممن اشتهر من شعراء صقلية ابن حمديس الصقلي (447-527 للهجرة/1055-1133 للميلاد) الذي كتب قصيدة مشهورة في الحنين للجزيرة التي ولد فيها، وقال:

ولله أرضٌ إن عَدِمتم هواءها .. فأهواؤكم في الأرض منثورةُ النظمِ

وعزّكم يفضي إلى الذل والنوى .. من البَيْن ترمي الشمل منكم بما ترمي 

فإنَّ بلاد الناس ليست بلادكم .. ولا جارها والخِلْم كالجار والخِلمِ

وفي قصيدة أخرى من حنينه للجزيرة يقول:

ذكرتُ صقلية والهـوىَ .. يهيَّج للنفس تذكارها

فإن كنت أخرجت من جنة .. فإني أحدّث أخبارها

واستفاد حكام صقلية النورمان من نخب البلاط المسلمين بعد سيطرتهم على الجزيرة، ولم يقم الحكم النورماني لصقلية بممارسات شبيهة بالانتقام الإسباني من عرب الأندلس، ومع ذلك هاجر كثير من نخب الجزيرة إلى شمال أفريقيا ومنهم ابن حمديس الذي توجه إلى الأندلس واستقر في بلاط إشبيلية لدى الأمير المعتمد ابن عباد الذي كان راعيا معروفا للأدب والشعر في عصره.

وبخلاف ابن حمديس اشتهر من شعراء صقلية محمد بن قاسم التميمي ومحمد بن الخطيب وابن الطوبي، ونبغ كذلك في الشعر بعض أمراء الكلبيين ومنهم الأمير جعفر ابن تأييد الدولة الكلبي، والأمير جعفر بن الطيب الكلبي الذي استقر بالمغرب ونقل عنه ابن القطاع الصقلي أشعارا في الحنين والمديح والغزل والحكمة، ومنها قوله:

أراها للرَّحيلِ مُثوَّراتِ .. جِمالاً بالجَمالِ مُحَمَّلاتِ 

تَتِيهُ على الرَّكائبِ في سُراها .. بأقمارٍ عليها طالعاتِ 

ولو نَظَرَتْ لِمَنْ تَسْـري إليهِ .. لَصَدَّتْ عَنْ وُجوهِ الغانياتِ

ونقل ابن القطاع كذلك شعرا لابن عبد الجبار المعروف بابن الكموني في رثاء صقلية بعد خروجه منها، وقال:

قد كانت الدار وكنا بها .. في ظل عيش ناعم رطبِ

مدَ عليه الأمن أستاره .. فسار ذكراها مع الركبِ

لم يشكروا نعمة ما خوِّلوا .. فبُدلوا الملح من العذبِ

العربية الصقلية
ولم يقدم دخول العرب صقلية الدين الإسلامي فحسب للجزيرة، بل حمل معه العربية باعتبارها لغة الثقافة والنخبة المرموقة.

وحتى بعد سقوط الحكم العربي استمر التفاعل الثقافي بين عرب شمال أفريقيا وسكان جنوب أوروبا عبر الممر الصقلي، وإلى جانب الأندلس وفرت بيئة صقلية المتعددة اللغات وسيلة انتقال لعدد من المفردات العربية إلى مختلف اللغات الأوروبية الحديثة.

وخلال القرنين السابع والثامن، فتحت صقلية بيد عرب تونس والقيروان، وكان الفتح العربي المسلم لصقلية البيزنطية تدريجيا وبطيئا.

وتشكل الصقلية العربية حوالي ثلث مفردات اللغة المالطية -وخاصة الكلمات التي تدل على الأفكار الأساسية والكلمات الوظيفية- وتتوزع النسب الباقية بين مفردات مستمدة من الإيطالية والصقلية، وبنسبة أقل مفردات إنجليزية وفرنسية.

وتطور اللسان الصقلي العربي أو سلف المالطية من اللهجة المغربية العربية في وقت مبكر بعد فتح صقلية في القرن التاسع الميلادي، لكنه تعرض للتهميش تدريجيا بعد سيطرة النورمان الإيطاليين على الجزيرة في القرن الحادي عشر.

وانقرض اللسان الصقلي العربي لاحقا، وتم تصنيفه كلغة تاريخية لم تبق إلا في كتابات قديمة بالجزيرة، وبقيت في صقلية عشرات الكلمات ذات الأصول العربية معظمها يتعلق بالزراعة، منذ الثورة الزراعية العربية في الجزيرة، إذ أدخل العرب تقنيات متقدمة للري والزراعة وأنواع محاصيل جديدة لا تزال تستوطن الجزيرة حتى يومنا هذا.

 

المصدر : الجزيرة نت

تصفح أيضا...