.. اجتمعنا ببعض الضيوف والإعلاميين في القاعة ، ومن بينهم مصور فلسطيني من سكان الضفة ، حدثنا عن مهمة سابقة له في الشرق الموريتاني ، ويبدو أنه لا يفتأ يذكر ما لقي من عناء في تلك المهمة جراء صعوبة الطرق الرملية.
وبعد استراحة قصيرة دُعينا إلى قاعة الطعام فوجدنا على الخوان أطايب الألوان وظرفاء الإخوان ؛ فكان الحديث ممتعا في شجونه مفيدا بفنونه ، وممن تحدث معنا أخ شيشاني الأصل يقيم في الأردن ، وفد إلى وطنه الأصلي لهذه المناسبة مع ولده الصغير.
وكان بجانبي فتى قادم من الهند مشتغل بطلب العلم ، ولديه انطباع طيب عن الشناقطة ؛فأهديته نسخة من كتاب (بذل الندى من قطر الندى وبل الصدى) ونسخة من (مواهب المنان) ، وطلبتُ منه تدريسهما للطلبة في بلاده.
فرغنا من تناول الطعام وعدنا إلى حيث كنا ؛ فلاحظ الولد الصغير أننا لم نتناول من أطباق الحلوى التي قدمت إلينا ، وأسف لبقائها على الطاولة ، وأبدى رغبة في الرجوع إليها ، وأخذ يجادل أباه في فكرة الرجوع بعد الانصراف.
أعجبتني براءة الصبي وعُرامته فعرضتُ الرجوع معه حتى يأخذ ما شاء ، لكن أباه أعرض عن ذلك.
وقد ورد في الحديث (عرامة الصبي في صغره زيادة في عقله في كبره) والعرامة : الحدة والنشاط ، وأرجو أن تتحقق الفراسة في ذلك الغلام.
انتظم جمعنا على مقاعد القاعة ونحن ننتظر إشارة الانطلاق لبدء إجراءات المرحلة الأخيرة من السفر.
في حدود الرابعة مساء خرجنا من مبنى المطار إلى محطة السيارات ، وهنا لاحظت تشابها في الألوان بين سيارات الأجرة في نواكشوط وموسكو.
ركبنا الحافلات وانطلقت بنا في رحلة داخل المطار إلى حيث تجثم الطائرة الروسية التي ستقلنا إلى كروزني.
الجسور التي تتعانق حينا وتفترق أحيانا بين غابات الدوح الخضراء الممتدة على حافات أرضية المطار تذكر بالطريق التي شبه بها طرفة بن عبد العبد آثار النسع على ضلوع ناقته حيث يقول في معلقته:
كأن علوب النسع في دأياتها
موارد من خلقاء في ظهر قردد
تلاقى وأحيانا تَبين كأنها
بنائق غُر في قميص مقدد
وهُوي الحافلات على متون تلك الجسور يذكر بقول العلامة محمد سالم بن عبد الودود رحمه الله تعالى :
لا القلب عن ذكره أهل الرباط سلا
حتى وإن هو لم يهبط مطار سلا
يهفو لركب رباطَ الفتح قد قصدوا
تهوي بهم حافلات كالقطا رَسَلا
كان العلامة محمد سالم رحمه الله عائدا من رحلة علمية قادته إلى ليبيا سنة 1974 رومية ، ضمن وفد يضم شيخنا اباه بن عبد الله حفظه الله تعالى والعلامة محمد بن أبي مدين رحمه الله تعالى ، فقرر شيخنا في رحلة العودة توديع الوفد الموريتاني والبقاء في المغرب ، وتابع باقي الوفد إلى موريتانيا من مطار سلا ؛ ففي ذلك قال العلامة محمد سالم البيتين المذكورين .
وقال العلامة محمد بن أبي مدين في ذلك :
نستودع الله من ضر ومن باس
من سار يقصد زور الشيخ في فاس
قد أرجأ الغرب عنا حين أرجأه
ما يعلم الله من علم وإيناس
وصلنا بعد نحو عشرين دقيقة إلى قاعة خاصة ، التقينا فيها بباقي الوفود المشاركة ، فسلم علي أثناء الدخول الفتى الشاعر الحائز على المركز الثاني في المسابقة الشعرية : محمود شهيد بو جمعة ، وهو مغربي ذو أصول موريتانية من سكان منطقة اكليميم جنوب المملكة المغربية.
واصلت الدخول في المبنى فوجدت مقعدا فارغا من مقاعد معدة لجلسات عامة ، جلست هناك فنبهني بعض الإخوة إلى أن مقابلي في المجلس الشيخ عدنان الأفيوني مفتي دمشق وريفها ومدير مركز الشام الإسلامي الدولي ؛ فقمت وسلمت عليه وعلى باقي الجماعة ، وهم الشيخ عثمان عبد الرحيم مستشار وكيل وزارة الشؤون الإسلامية بدولة الكويت ، والأستاذ الدكتور محمد شريف الصواف المدير العام لمجمع الشيخ أحمد كفتارو، وشخص رابع لم أتمكن من معرفته.
قمت إلى حقيبتي واستخرجت منها كتبا جلبتها معي من موريتانيا ، ووضعتها على الطاولة ليختار منها القوم ؛ فاختار الشيخ عدنان الأفيوني كتاب (الدكتور محمد المختار ولد اباه ، كتب ومقالات) ، واختار الشيخ عثمان عبد الرحيم كتاب (بذل الندى) واختار الدكتور الصواف كتاب (المستطاب من نحو متممة الحطاب) ، واعتذر الجليس الرابع عن الاختيار شاكرا على العرض ، رددت الكتابين الباقيين إلى الحقيبة ، وهما (الشعر الموريتاني الملحون) وديوان (يتيمة البحرين) ، قلت في نفسي يبدو أن الكساد يلاحق ديواني (يتيمة البحرين) في مشارق الأرض بعد مغاربها ، وتذكرت قول البحتري لجلساء المتوكل : "ما لكم لا تقولون أحسنت ، هذا والله لا يحسن أحد يقوله" لكنني لم أفصح عن ذلك مخافة أن يكون (صيمريٌّ) بالمرصاد.
الشيخ عثمان عبد الرحيم مصري صعيدي يحمل تحت أبهته الأزهرية روحا خفيفة أليفة ، قال معلقا على تناول الجماعة للآيس كريم إنه من الأمور التي كانت محرمة فصارت مباحة ، واسترسل في تحليل هذه القاعدة وتعداد الأمثلة ، وذكر منها التلفزيون ؛ فقال إن (الدش) كان يُخفى على السطوح مخافة الثلب والتجريح ، وقال إن من كان يحرِّم تناول الآيس كريم يستدل لذلك بأنه من خوارم المروءة لأن صاحبه لا بد أن يخرج لسانه.
وعد منها الهواتف الذكية ، وحكى عن أحد أصدقائه المتجردين لطلب العلم ؛ قال : سألته مرة عن الهواتف التي تكون فيها الصور ومقاطع الفيديو ، فقال لي : أعوذ بالله ، هذا حرام ! ، وبعد سنة زرته فإذا هو عاكف على هاتف ذكي ينكته بأصبعه ويتقلب بين تطبيقاته.
والفكرة التي أراد الشيخ عثمان إيصالها هي أن بعض أحكام التحريم غير المنصوصة قد يكون مصدرها عدم تصور مواقع الأحكام تصورا تاما.
استظرفتُ كلام الشيخ عثمان ، وذكرتُ له من أمثلة الأحكام التي تتغير بتغير التصور (مسألة التدخين) فقد اشتهر الخلاف فيها بين العلماء عند ظهور (التبغ) قبل تطور أجهزة الفحص الطبي الدقيقة التي كشفت عن إضراره بالجسم بإجماع الأطباء ، ولذلك أفتى شيخنا بحرمة التدخين بعد اطلاعه على جملة من التقارير الطبية المُعدة من طرف مشاهير الأطباء وتلك الصادرة عن منظمة الصحة العالمية.
وقد قلت في باب المباح من نظم معين السالك : "وحُرِّمتْ ذات الدخان للضرر"
وذكَّرت الشيخ عثمان بالخلاف الذي جرى بين محمد بن بخيت المطيعي والشيخ يوسف النبهاني رحمهما الله تعالى في التقاط الصور .
سألني الشيخ عثمان هل تُدعى إلى الدروس الحسنية؟ فقلت له لا.
وبعد ذلك سألني الشيخ عدنان مستثبتا عما أجبت به الشيخ عثمان، فأعدته عليه، فقال ظننتك قلت إنك تُدعى ولا تجيب.
خرجنا بعد حين إلى الطائرة الخاصة المُعدة لنقل الوفود المشاركة في وقائع احتفالات افتتاح أكبر مسجد في أوروبا.
بعد أخذ الأماكن حسب بيانات بطاقة الصعود لاحظت أن الجالس في المقعد الذي عن يميني هو الشيخ الدكتور محمد أحمد الخلايلة المفتي العام للمملكة الأردنية الهاشمية ، تعرفتُ إليه ، وتبادلنا العناوين ، وناولته نسخة كانت بيدي من بذل الندى عليها اسم أحد الإخوة ، قلَّب النظر فيها ، ونبهني عند مروره بالبيت:
أو خُتما بزائدي فعلانا كمثل سكران وأصبهانا
إلى أنه كان من الأفضل التمثيل بغير سكران ، حفاظا على الانسجام بين الجانب التربوي والجانب التعليمي.
عند الساعة الثامنة وبضع دقائق مساء هبطت الطائرة في مطار اكروزني ، وقد مد الظلام رواقه ، وكحل الليل عيون مصابيح المطار وسيارات المراسيم التي صفت إلى ناحية لنقل الضيوف إلى مقر إقامتهم.
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفول فقد جئنا خراسانا
عند سلم الطائرة وقف سماحة الشيخ صلاح مجييف مستشار رئيس جمهورية الشيشان والمفتي العام للجمهورية ، وعن يمين السلم اصطف أكابر أعيان ومسؤولي الدولة لأداء التحية للوافدين ، وخلف ذلك وقف رجال الإعلام لتلقي تصريحات رؤوس الوفود المشاركة.
بعد انتهاء تصريح وزير الأوقاف العراقي أومأ إلينا أحد المستقبلين بالتقدم إلى إحدى السيارات للتوجه إلى مقر الإقامة.
انظلقت بنا السيارة إلى فندق كبير في وسط العاصمة ، ومنه تم استدعاء المشاركين في المسابقة القرآنية والمسابقة الشعرية مع لجنتي التحكيم إلى فندق آخر خاص بهم عن بقية الضيوف.
انتقلنا إلى الفندق الخاص بنا ، وعند دخول الجناح الخاص بي صليت المغرب والعشاء ، وأسلمت نفسي إلى صنوف وسائل الراحة المتاحة في الفندق الراقي بعد أربع وعشرين ساعة من السفر شبه المتواصل، على أن أبدأ إجراءات الخروج في الساعة السابعة صباحا حسبما هو مرسوم في جدول أعمال ذلك اليوم الشيشاني المشهود .