الطريق إلى "غروزني- الشيشان" 2 ، توثيق لرحلة تحكيم الشعر هناك / الشيخ محمد بن بتار بن الطلبة

سبت, 14/09/2019 - 11:59

بعد استكمال الأُهبة، وحين جد الجد اقترح عليَّ بعض الإخوة بإلحاح أن ألبس البذلة المدنية، وذكر لي كثيرا من منافعها خصوصا في حال السفر، فاعتذرت له بأمور منها أنني لم آلف هذا النوع من اللباس، وأن العادة لا يمكن أن تتغير لأجل سفر مدته أربعة أيام فقط، ومنها أن ظرفاء الشناقطة ذكروا من عيوب (البنطلون) أن لابسه تكون له رجلان! 

وتذكرت هنا قصة جرت بين الشيخ محمد الحافظ بن السالك والأستاذ الشاعر الكبير محمد الحافظ ولد أحمدُّ حيث التقيا في أحد شوارع العاصمة نواكشوط والشاعر محمد الحافظ ولد أحمدُّ في الزي المدني في طريقه إلى مقر عمله؛ فخاطبه الشيخ محمد الحافظ بن السالك منشدا :

...وقد رابني منها الغداةَ سفورها !

مع أنه لا مانع من لباسه شرعا كما في فتاوي شيخنا حفظه الله ورعاه حيث سئل عنه، وورد التعبير عنه في السؤال باللباس الرومي؛ فأجاب بأنه "لا يظهر لمن نظر نظرا صحيحا مانع من استعماله، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه في علمنا نهي عن استعمال لباسهم على الكيفية المخصوصة بهم، ومعلوم أن الأحكام متوقفة على ورود النص من الشارع وإلا فهي باقية على على البراءة الأصلية، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يغير لباس من أسلم من العجم بل تركهم على ذلك وأقرهم على حالهم، مبينا أن اللباس ليس من الزي؛ فلا يتناوله النهي عن زي أهل الشرك الذي ورد في أثر عمر رضي الله عنه، ولو كان منه لعارضته الأخبار الواردة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس لباس العجم .

ثم قال بعد ذكر الأخبار المذكورة :"وإذا ثبت من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس لباس الروم يظهر لك أن أدنى مراتب أحكام لباسهم الجواز، لأن فعله صلى الله عليه وسلم إما أن تكون معه قرينة تدل على الوجوب أو على الندب، وما فعله المركوز في جبلته فهو من باب المباح."

مع أن التشمير في السفر مطلوب لما ورد في الحديث الصحيح عن المغيرة بن شعبة قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم أقبل فلقيته بماء، وعليه جبة شأمية فمضمض واستنشق وغسل وجهه فذهب يخرج يديه من كميه فكانا ضيقين فأخرجهما من تحت فغسلهما ومسح برأسه، وعلى خفيه.

قال شراح الحديث : "وفيه التشمير في السفر ولبس الثياب الضيقة فيه لأنها أعون عليه؛ قال ابن عبد البر بل هو مستحب في الغزو للتشمير والتأسي به ولا بأس به عندي في الحضر."

لكن ترك المألوف شديد على النفس، ولذا رخص العلماء في صوم يوم الشك لمن اعتاد صومه، وقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم في الضب (لم يكن بأرض قومي): "أي ليس من المألوف له؛ فلذلك ترك أكله، لا لكونه حراما"

وقال سيدي عبد الله بن رازكه رحمه الله تعالى في إحدى روائعه:

وأما هوانا طولَها فلأنفس

شديد عليها فقدُ ما كان تِيلَف

استقر الرأي بعد أخذ ورد على إعمال قاعدة من أصول المذهب المالكي وهي قاعدة "ورود الحكم بين بين" توفيقا بين الرأيين؛ وهي لبس ما يحصل به التشمير المطلوب في السفر ، مما لا يبعد كثيرا عن عادة أهل البادية في اللباس؛ كالثوب الخليجي أو المغربي مع البرنس.

البيانات المرسومة في التذكرة تفيد أن موعد الحضور لبدء إجراءات السفر الساعة الثالثة بعد الظهر، والمغادرة الساعة الخامسة وخمسون دقيقة مساء، وموعد الوصول إلى دبي الساعة الثامنة صباح الخميس.

أكّد لي أحد الإخوة أن الصلاة ممكنة على متن الطائرة الإماراتية فلا داعي للتردد في السفر خوف فوات صلوات المغرب والعشاء والصبح، وكنت قد ترددت لأجل ذلك وأخبرتُ من معي بأن السفر لحجة الفرض إذا كان يؤدي إلى تضييع ركن من أركان الصلاة لم يجز؛ فغيره من الأسفار أولى.

كان الأمر كما وصفوا؛ فصليت العشائين والوتر والصبح في مكان فسيح معين على أداء الأركان مستندا في دخول وقت الفجر إلى مشاهدة ضوئه المستطير من نافذة الطائرة، وفي القبلة إلى توجيه البوصلة المعروضة على شاشة المقعد.

وأداء الصلاة على متن الطائرة فيه بحث مشهور بين علمائنا، إلا أن شيخنا حفظه الله تعالى يميل لرأي القائلين بأدائها على الطائرة ويرى إعادتها على الأرض احتياطا ومراعاة للخلاف؛ لأن القائلين بعدم صحتها كانوا ينتقصون بالموت لا بالرجوع.

كان الوصول إلى مطارintl blaise diagne في حدود الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر مع الأخ الرفيق الشيخ الطاهر الذي سخر وظيفته الدبلوماسية لتسهيل إجراءات وصولي إلى قاعة الانتظار دون عناء، وهو ما تم على الوجه الأكمل جزاه الله خيرا.

اجتمعت في قاعة الانتظار مع بقية الوفد الموريتاني المدعو لهذا الحدث التاريخي : السيد سيدي محمد ولد بمبا الذي انتزع لموريتانيا لقب إمارة الشعر في (أبو ظبي) في النسخة الثانية من (أمير الشعراء) والشاعر شيخنا عمر حائز المركز الأول في مسابقة الشيشان الشعرية الدولية . 

أقلعت الطائرة في الوقت المحدد متوجهة إلى دبي في رحلة تمتد لتسع ساعات من الطيران، وبعد نحو ساعة من إقلاعها بدأت الشاشات المثبتة في المقاعد تعرض إحداثيات الطائرة، ونام الركاب، وبقيت أراقب مراحل سير الطائرة كما يرعى المهموم سير النجوم.

وفي بعض الأحيان أشرف فأنظر إلى الأرض للمقارنة بين ما على ظهرها وما يبدو من الشاشة، فرأيت أثناء ذلك أضواء تفيد بيانات الشاشة أنها أضواء القاهرة وهي تغطي رقعة فسيحة من الأرض فتذكرت أنني قبل نحو تسع سنين قد حجرت مقعدا في في طائرة تابعة لإحدى شركات الخطوط الإفريقية للسفر إلى القاهرة، لكن أتت دون ذاك اليوم أيام (ميدان التحرير) وطارت بذلك الحجز عنقاء مغرب.

بعد ثمان ساعات من الطيران بدأت الطائرة تتغلغل في فضاء منطقة الخليج العربي وأظهرت صور الشاشة أنها تركت خلفها المدينة المنورة والبيت الحرام، فأنشدت عند رؤية تلك الصور كاف الشاعر الشيخ بن مكي رحمه الله تعالى :

يلِّ للنخل هون درت فكفايَ وانبمامِ

 

بدِّير النخلَ ما اعجزت وانبمامِ كدّامِ

يقول الشاعر:(يا من جعلت هذين الموضعين خلفي إنك لقادر على أن تجعلهما أمامي)

 

وقول أبي صخر الهذلي :

 

ألا أيها الركب المخبون هل لكم بساكن أجزاع الحمى بعدنا خبر

 

فقالوا طوينا ذاك ليلا فإن يكن به بعض من تهوى فما شعر السفر

 

خليلى هل يُستخبَر الرمث والغضا 

وطلح الكدا من بطن مروان والسدر

وفي طريق العودة عادت الصورة نفسها للظهور على الشاشة فقلت منشئا:

سألتُك يا عظيم المن غنما وأجرا أنت أكرم من أجابا

 

لأقصى الشرق عن وطني وأهلي طوت فُلْك الفضاء بيَ الرحابا

 

ومرت بالديار فلم تعج بي ذهابا بالديار ولا إيابا

 

وهوَّن ذاك أني عند أوبي سألفي للمدينة ثَمَّ بابا

 

على أني بفضلك أرتجي أن أكون كمن بها لبَّى وثابا

 

 وجدت صعوبة كبيرة في التفاهم مع طاقم خدمة الركاب أثناء بحثي عن مكان الصلاة لجهلي باللغة الإنجليزية،، وكنتُ إذا أومأتْ إليَّ إحدى المضيفات للاختيار مما في عيبتها من الطعام والشراب فلم أفهم؛ أعادت علي السؤال بصوت أعلى لأسمعها؛ وقد فاتها أن الوقر في القلب لا في الأذن؛ ومن الكلِم المأثورة عن أحد أكابر مشايخنا الذين كتب الله لهم القبول في الأرض وشهد لهم القاصي والداني بدماثة الخلق قوله في الحث على ضبط النفس والسكينة: إن معنى الكلمة عند رفع الصوت بها هو معناها عند خفض الصوت، فرفع الصوت لا يوضح المعنى ولا يقوي الحجة. 

ظلت عقبة التواصل تلاحقني في المطارات وفي الفنادق؛ فوددت لو أنفقت في تعلم اللغة الإنجليزية من الوقت ما أنفقته في تعلم اللغة الفرنسية التي لم تفدني شيئا إلى يومنا هذا.

 

وكنت أسأل نفسي لم لا تكون لغة التواصل في مجال الخدمات عربية في المرافق المملوكة للدول العربية؟!

بعد تسع ساعات من الطيران وفي حدود الساعة الثامنة صباحا بالتوقيت المحلي تمت عملية النزول بنجاح ولله الحمد وأرخى الملاح العنان للطائرة على مدرج مطار دبي الدولي، وبدأنا نعد أنفسنا لاستئناف رحلة دبي موسكو التي تبدأ حسب ما هو مقرر في الساعة التاسعة وخمس وثلاثين دقيقة؛ يصدق علينا حينئذ قول ابن مالك في الخلاصة (كجاء زيد وهو ناوٍ رحلَه)

 وقول أبي محمد الخازن:

لاتستقر بأرض أو تسير إلى أخرى بشخص قريب عزمه نائي

 

 يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبالــــــــ 

ــــــــعذيب يوما ويوما بالخليصاء 

 

 وتارة تنتحي نجدا وآونة شعب العقيق وطورا قصر تيماء

 

رأينا من نافذة الطائرة العمارات الشاهقة في دبي رأي عين، لكنها كانت نظرة سلام ووداع: 

رصد الفرصةَ حتى أمكنت ورعى السامرَ حتى هجعا

ركب الأهوالَ في زوْرته ثم ما سلم حتى ودَّعا

ذكرتني تلك البُنى الشامخة بقصيدة كنت قد أنشأتها قبل سنين أولها :

هو المجد مَرعًى ليس يُجْدبُ رائدُه ولا تَرْعَوِي دون الهَوادي طَرائدُه

حَميدٌ لِمُرْتاد المحامد قصدُه ومحمودةٌ في كل شَأْو مقاصدُه

.............

وتلك بُنَى العُمران شامخةُ الذُّرى وتلك على نهج الهُداة مَساجدُه

مُعاصَرةٌ مقرونة بأصالةٍ وطارِفُ مجد خالداتٌ تلائدُه

جناحٌ لمن قَصَّ الزمانُ جناحَه وساعِدُ مَن في الخطب كَلَّتْ سواعدُهْ

...

يناديه في الضراء ذو الضر شاكيا فيصبح في نعمائه وهْو حامده

ويصغي إلى المسكين يشرح حاله كإصغاء ذي بر يناجيه والده

...

له من (دُبَي) شاهد وكثيرة حلاه بآفاق العلا وشواهده

إلى آخرها

 عند خروجنا من نفق الركاب تلقتنا إحدى موظفات الخطوط الإماراتية تنادي : موسكو ..موسكو فعدلنا إليها ثلاثتنا فما إن رأتنا حتى انطلقت أمامنا لنركض خلفها إلى البوابة التي ننفذ منها إلى الطائرة المتوجهة إلى موسكو، واستعنا في بعض الطريق بإحدى المركبات الكهربائية فوصلنا إلى القاعة بعد نحو عشر دقائق من السير والتحقنا بجمع المسافرين إلى موسكو وأخرجنا بطاقة الصعود التي استخرجناها من مطار داكار وخرجنا إلى الحافلة التي حملتنا إلى الطائرة ...

للإطلاع على الجزء الأول اضغط هنا : الطريق إلى كروزني 1 / الشيخ محمد بن بتار بن الطلبة

تصفح أيضا...