بسم الله الرحمن الرحيم
الطريق إلى كروزني (1)
بدأت المؤشرات الأولية تعطي إشارات هذه الرحلة حين اتصل بي أحد موظفي مكتب مستشار الرئيس للشؤون الدينية في جمهورية الشيشان -وأنا على طريق الأمل- يعرض عليَّ قبول مسؤولية التحكيم ضمن لجنة تضم ثلاثة أشخاص من دول مختلفة أنا ثالثهم في مسابقة شعرية تقام بمناسبة افتتاح معهد قرآني وأكبر مسجد في أوروبا في الثالث والعشرين من شهر أغسطس، وهو ما يصادف الذكرى الثامنة والستين لولادة الشيخ الشهيد أحمد حاج قاديروف، وموضوع المسابقة مديح النبي صلى الله عليه وسلم والحث على محبته واتباعه والتركيز على أثر ذلك في وحدة صف الأمة.
فأجبت بالقبول بكل سرور، فطلبوا مني السيرة العلمية فأرسلت ُ لهم النسخة التي كانت بين يدي منها يومئذ، وبعد ذلك بنحو أسبوع وجدت على بريدي ضوابط المسابقة والنصوص المشاركة -وهي مائة وثمانون قصيدة-وقوائم التحكيم؛ فعكفت أياما على النظر في النصوص جاعلا نصب عيني القواعد العامة لتحرير النص العربي والمعايير الموضوعية الخاصة بهذه المسابقة وبعد تمام العمل أعدت النتائج إلى اللجنة المنظمة عبر بريدها.
وبعد فرز النتائج على مستوى لجنة التنظيم تلقيت دعوة من بريد سماحة مفتي جمهورية الشيشان الشيخ صلاح مجيف لحضور حفل الافتتاح والتكريم من طرف فخامة رئيس الجمهورية السيد رمضان أحمد قاديروف.
قبلت الدعوة الكريمة، وبدأت أطرق نوافذ البحث الرقمية للحصول على معلومات عن جمهورية الشيشان، بدءً بحالة الطقس ثم التاريخ والمذهب والأعراف والتقاليد إلى وسائل الإدارة، فحصلت على معلومات كافية تركت لدي انطباعا جيدا عن هذه البلاد ورغبة في الوصول إليها رغم بُعد الشقة؛ فذكرت قول عمرو بن الشحنة الموصلي:
وإني امرؤ أحببتكم لمكارم
سمعت بها والأذْن كالعين تعشق
ثم جاد عفو الخاطر بقطعة شعرية تحيي تلك البلاد وترسم بعض محاسنها وتسجل المواقف الإسلامية النبيلة التي تبناها السيد الرئيس في القضايا الإسلامية الكبرى ، فكتبتها بعنوان: تحايا إلى الشيشان.
وهذا نص القطعة:
تحايا إلى الشيشان
طِرازُكِ من ديباجة الحُسْنِ أخضرُ
ووجهُكِ بالإحسان أَبْهى وأنضرُ
وتُبدي المرايا منكِ أحسنَ صورة
تلوح عن الإسلام أو تُتَصور
سلام وعدل واقتصادٌ وحكمة
وعينٌ بنور الله تجلو وتنظر
تناسقتِ الأفكار في وسطية
وحكمٍ بشرع الله ينهى ويأمر
بعثتِ رسالاتِ المحبةِ والهدى
نداءً من الشيشان، الله أكبر!!
أظَلَّتْ أوربا للسلام مَنارةٌ
وبَثَّ بها روح التسامح منبر
وسارتْ مَسيرَ الشمس أنباءُ أُمَّة
تُبَشِّرُ بالحق المبين وتنذر
تنادي: أنا الصرح الذي شاد أحمد
عليَّ لواءُ الفاتحين مُشهَّر
على أُسُس التقوى أقام دعائمي
أبونا الشهيد القادريُّ المظفر
أنا جنة الدنيا ومحرابُ دعوة
إلى الله بالحسنى تُعَزُّ وتُنصَر
وذا المسجدُ المعمور أصدقُ شاهد
وذا ملأُ الإسلام، والحسنُ أَحْمَرُ
أنا القلعة الشماء والصخرة التي
عليها سهام المعتدي تتكسر
تداعى إليَّ الناس تحدوهم المنى
وما من جميل الذكر يروى ويؤثر
إلى "بطل الروس" الذي منع الحمى
وحالفه عز ونصر مؤزر
مُحِبِّ النبي الهاشمي وآله
وذلك أسنى ما يُنالُ ويُذْخَرُ
لِسُنته الغراء يقفو ويقتني
من العهد آثارا بما لا يُقَدَّرُ
وآيةُ حُبِّ الهاشمي اتباعُهُ
وحبٌّ لما مِنْ نوره يُتَنَوَّرُ
وخادمِ بيت الله أحسنَ خدمة
بها الذكر يعلو والمشاعر تُعمَرُ
وللمسجد الأقصى يُعَظِّمُ حرمةً
وينشر مَطويَّ الزمان وينثر
فَدَتْ رمضان القادةُ الشُّمُّ مثلما
فدتْ رمضانَ الدهرِ في الدهر أشهُرُ
ولا زال في أيامه الحظ مقبلا
وطالعه سعد به الأفق أزهرُ
تحايا إلى الشيشان من كل بقعة
بذكر الحبيب المصطفى تتعطر
صلاة وتسليم عليه شذاهما
ختامان: ذا مسك وذلك عنبرُ
في هذه الأثناء كنت أنا واللجنة المنظمة ننتظر خروج التأشيرة من السفارة الروسية في داكار.
وفي يوم الاثنين الموافق ليوم عيد الأضحى من السنة الهجرية 1440 تلقيت اتصالا من أحد أعضاء اللجنة يطلب مني التوجه فورا إلى داكار لاستلام التأشيرة نظرا لضيق الوقت، وكان اتصاله مصحوبا بالنسخة الروسية من الدعوة ورقم التأشيرة.
حجزت مقعدا في الطائرة الموريتانية المتوجهة إلى دكار على أن يكون السفر في اليوم الموالي، فوصلت إلى داكار في نفس اليوم، وبعد راحة قصيرة مع أخي وصديقي العزيز السيد في مقر إقامته بحي (وكام) حول تمثال الحرية توجهت إلى السفارة الروسية وأخذت المعلومات اللازمة للحصول على التأشيرة، ثم اكتملت الإجراءات في القنصلية الروسية هناك أياما بعد ذلك .
وفي تلك الأثناء قابلت سيدة من موظفي القنصلية الروسية، وهي روسية فيما يبدو إلا أنها تتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة ، وكلمتها في الموضوع؛ فطلبت مني وثيقة الدعوة إلى الشيشان فأريتها النسخة العربية فقالت إنها لا تفهم هذه اللغة، ثم انتبهتُ إلى وجود النسخة الروسية فأريتها إياها فأشارت بالإيجاب.
ومن الطريف أنني بحثت عن اسمي في النسخة الروسية فلم أجده رغم أنه موجود إلا أنه مكتوب بحروف لا أفهم دلالتها، وتعجبتُ كيف عرفت السيدة أن الاسم الموجود في الدعوة مطابق للاسم الموجود في الجواز، وهو الاسم الذي تدعوني به من قاعة الانتظار مع اختلاف أشكال الحروف.
كان هذا المشهد مثالا حيا لمسألة جرى البحث فيها قبل أيام بين مجموعة من طلبة العلم حول فتوى عرضها أحد الأعضاء، وهي أن بعض المعاصرين قال إن اسم الله تعالى (الرحمن) إذا أبدلت حاؤه هاء -كما ينطقه أكثر العجم- لم تعد له حرمة ويجوز إلقاء الورقة التي كتب فيها.
فكتب أحد المشايخ ردا لهذه الفتوى: "فات هذا المعاصر أن اللفظ لا يُقرأ بالهاء، بل بالحاء، ووضع لفظ الهاء للدلالة على الحاء لا محذور فيه؛ لأن نقوش الكتابة تتبع الاصطلاح".
فرضتْ علي الإجراءات غير المتوقعة للتأشيرة رفض موعد العودة إلى موريتانيا لتوديع الأحبة، والبقاء أياما في داكار.
في أحد هذه الأيام ألقي إلي بكتاب كريم وهو رسالة من شيخنا وابن شيخنا د. محمد الأمين تتضمن قطعة شعرية بمثابة توديع ومباركة للسفر؛ وهي:
نستودع الله الحفيظ محمدا
إذ غادر الأوطان للشيشان
أنى له قذفت به قُذُف النوى
ما للششان وشيخنا من شان
ندعو الإله بأن يعود مظفرا
ويؤوب في أمن لنا وأمان
ويدوم للطلاب تنشد علمه
بتلهف من عاشق ولهان
يبقى لنا رمزا يفك الرمز من
"تاءان والسينان والشينان
ونصوص علم إذ يطرز شرحها
بلئالئ من در او مَرجان
وعويص علم فيه يُعمل فكره
يغدو جليا مائلا لعيان
وإذا سمعت الشعر منه حسبته
من حسن ذاك حدائق الوناني
يرعى عهودا بيننا قد وُطدت
بالود لا وان ولا متوان
وإذا الأمور تبدلت وتغيرت
تأبى طبائع منبت العيدان
فأجبته بهذه القطعة:
لله بيض مقاطع ومعان
وصلت عُرى الأسباب بالسودان
عنَّت لمغترب رمته يد النوى
من ساحل السنغان للشيشان
تجري به فلك المشيئة نازحا
عن ملتقى الأوطار والأوطان
فسرى نسيم القرب من نفحاتها
في نأيه فارتد كالمتداني
ورأى هناك من العناية أعينا
من حيثما ولى إليه روان
لا زال منتسبا إلى ذاك الحمى
متقلدا بالشكر والعرفان
والله يحفظ سهمه في نومه
من قائم عاث ومن نشوان
وعسى الذي رد الكليم يرده
حتى تقر بعَوده العينان
وهنا قال لي أحد الإخوة: "الشيخ محمد الأمين أثنى عليك ولم تُثن عليه"
فقلت إن بعض الناس يكون مجرد الحديث عنهم ثناء عليهم، كما قال الشاعر الشعبي:
شكَّارَكْ ماهُ منْغْبَنْ **
كمت امونك شكارَك
كافِ شَكَّارَك كاع مِنْ **
شكرك لا شد اخبارَكْ
يقول الشاعر (إن مادحك غير مغبون، فقد سهَّلت مدحك على مادحيك، إذ يكفيهم من مدحك أن يتحدثوا عنك)
كانت أيامي في دكار أيام راحة واستجمام لا هم لي فيها إلا الحصول على التأشيرة الروسية، اشتقت خلال ذلك إلى ما ألِفت من البحث والمذاكرة مع الإخوان في محضرتنا؛
بعث إلي في تلك الأيام أحد الإخوة ممن عرفتهم من خلال بحوثهم اللغوية عبر الأنترنت يحاول فيه كاتبه نقض ما عابه الشيخ عبد القاهر الجرجاني على أبي الطيب المتنبي في قوله:
عجبا له حفظ العنان بأنمل
ما حفظها الأشياء من عاداتها
قال عبد القاهر في دلائل الإعجاز: وإنك لتنظر في البيت دهراً طويلاً، وتفسره ولا ترى أن فيه شيئاً لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفي لم تكن قد علمته، مثال ذلك بيت المتنبي، من الكامل:
عجباً له حفظ العنان بأنمل
ما حفظها الأشياء من عاداتها
مضى الدهر الطويل ونحن نقرؤه، فلا ننكر منه شيئاً، ولا يقع لنا أن فيه خطأ، ثم بان بأخرة أنه قد أخطأ. وذلك أنه كان ينبغي أن يقول: ما حفظ الأشياء من عاداتها فيضيف المصدر إلى المفعول، فلا يذكر الفاعل، ذاك لأن المعنى على أنه ينفي الحفظ عن أنامله جملة، وأنه يزعم أنه لا يكون منها أصلاً، وإضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله: ما حفظها الأشياء، يقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظاً.
ونظير هذا أنك تقول: ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عادتي، ولا تقول: ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي. وكذلك تقول: ليس ذم الناس من شأني، ولا تقول: ليس ذمي الناس من شأني. لأن ذلك يوجب إثبات الذم ووجوده منك. انتهى
وقد انتصر الأخ المذكور للمتنبي، ورد ما عابه عليه الجرجاني مستشهدا لذلك بقول قيس بن عاصم المنقري:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا
وما من خلالي غيرَها شيمة العبد
وبقول حبيب:
شكوت وما الشكوى لمثليَ عادة
ولكن تفيض الكأس عند امتلائها
قائلا إن في الأول إثباتا لشيمة العبد، وفي الثاني إثباتا للشكوى.
فكتبتُ إليه: " بحث جيد كالعادة حفظكم الله، ومع ذلك فلا شك أنه لولا الوزن لكان قوله: ما حفظ الأشياء من عاداتها أقرب إلى الذوق.
ويظهر أن مبنى أخذ الشيخ عبد القاهر رحمه الله تعالى هو أن الإضافة تقتضي عهدا بين المتضايفين، فلا نقول اقرأ كتابك إلا لمن علمنا أن لديه كتابا، فكذلك (حفظها) يقتضي أن لأنامل الممدوح حفظا، ومراد المتنبي ومقتضى تعجبه أنها لم يُعهد منها الحفظ أصلا، ومع ذلك حفظت العنان.
فلو عهد منها الحفظ للأشياء ولو مرة لكان التعجب في غير محله.
أما قول حبيب: "وما الشكوى.. فالظاهر أن أل فيه جنسية وليست عهدية؛ فلا تفسر بشكواي حتى يرد عليها ما ورد على المتنبي.
وأما قول قيس: وما من خلالي غيرها.. فالفرق بينه وبين بيت المتنبي أوضح؛ لأن تقدير استثناء العنان في بيت المتنبي يفسد التعجب، واستثناء خدمة الضيف من شيم العبد في بيت قيس هو الذي يتم به الفخر. هذا للمذاكرة فقط. والله أعلم"
وفكرت في وضع رسالة بعنوان (العقد المَرجاني في الذب عن الشيخ الجرجاني) أوسع فيها مجال النظر في المسألة، وأجلب فيها من الأدلة ما يليق بمقام الإمام الجرجاني، وعسى أن الله ييسر لي ذلك.
بعد اكتمال مستلزمات التأشيرة ضربت الموظفة في القنصلية يوم الحجز للتوجه إلى الشيشان -وهو اليوم الحادي والعشرون من أغسطس- موعدا لاستلامها.
كان أحد الإخوة قد حثني على أن لا أسافر إلا في درجة رجال الأعمال؛ كما هو الشأن في الأسفار الطويلة، وكنت أقول له إني لا أرى داعيا لذلك، فلما أريته التذكرة قال هذه من الدرجة الاقتصادية! فقلت له: هذا محلي، وأسأل الله أن يحفظني من شر شواهد الامتحان.
مشيرا بذلك إلى خبر مشهور، وهو أن شيخا من أكابر مشايخ هذه البلاد كان هو ورفيق له أيام الطلب في رحلة مع شيخهما، فنزلوا على خيمة؛ فرفع الرفيق عقيرته منشدا:
تأَدَّبْ إن نزلتَ على أُناس
وكن منهم بمنزلة الأذلِّ
فإن رفعوك كان الفضل منهم
وإن خفضوك قل هذا مَحَلِّي
ثم إن الضيافة لم تكن على الوجه المطلوب فغضب الرفيق وسب وشتم فقال الشيخ: رفيقك فضحته شواهد الامتحان.
أما أنا فلم أزل في حفاوة وإكرام وتكريم من لدن إخوتنا الكرام مدة الإقامة في الشيشان، بل وفي روسيا كلها، ولم أكن عرضة لشواهد الامتحان.
عشية الثلاثاء العشرين من أغسطس كان كل شيء جاهزا لبدء رحلة تقود إلى كروزني على خط (دبي - موسكو)....