
زمنٍ لم يكن المال فيه معيار الرجولة، بل المبادئ، ولم تكن السلطة والجاه مصدر المكانة، بل الإيمان بالعدالة والمساواة، ظهرت قلوبٌ تنبض بحب الوطن، وعقولٌ تصنع التغيير، وأيادٍ تمتد بالعطاء دون انتظار مقابل.
لم يكن سجن بيلا مجرد أسوارٍ تعزل الأجساد، بل كان مدرسةً تُصقل فيها العقول، وساحةً تشتد فيها العزائم، ومحرابًا تُتلى فيه قيم النضال والحرية. كان دخوله شهادة انتماءٍ للكادحين، والخروج منه وسام التزامٍ بالمبادئ.
ومن بين هؤلاء، برز معطى ولد الرحيل، فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، دخل السجن وهو أميّ، وخرج منه محمّلًا بالعلم والفكر. لم يكن يرى السجن عقوبة، بل فرصة للتعلم والتكوين. وعندما غادره، لم يحمل معه فقط الذكريات، بل خرج محمّلًا بالأغطية والفرشة والناموسيات التي تركها له رفاقه.
سأل رفيقه المصطفى أعبيد الرحمن، أحد آخر قادة الحركة المسجونين في بيلا:
“ماذا أفعل بهذه البضائع الكثيرة؟”
فأجابه المصطفى:
“ألم يتركها لك الرفاق؟”
فرد معط بحزم:
“هذه ليست ملكي، بل للحركة.”
فقال له المصطفى:
“إذا خرجتَ قبلي، فاتركها عند أهل إشدُ.”
لم يفكر في بيعها أو الانتفاع بها، بل حملها على ظهر حمار وسار بها إلى أهل إشدُ، أحد معاقل النضال، كأنه يسدد دينًا للنضال. هناك، التقى ميمونة رحمها الله، والدة فاطمة بنت عابدين، وروى لها قصته ووصية المصطفى. لكن ميمونة، التي كانت مثالًا للتكافل والتضامن، باعت البضائع وأعطت المال للفتى، لأنها أدركت أن حاجته إليها كانت أشد من حاجة الحزب نفسه.
كان معطى ولد الرحيل آخر السجناء خروجًا وأصغرهم سنًّا، نال حريته بموجب العفو العام في مايو 1975، خلال فترة شهدت انفتاحًا على الشباب واندماج الأغلبية في حزب الشعب الموريتاني، فيما عُرف لاحقًا بـ”الميثاقيين”، وهي مرحلةٌ لها ما لها وعليها ما عليها.
يروي لنا معطى أن بعثة من حزب الشعب، بقيادة المرحوم محمد ولد خطري ولد سكان، زارت السجناء للتفاوض معهم، كما قامت السيدة الأولى، مريم داداه، بزيارة مطوّلة ناقشت خلالها المصطفى أعبيد الرحمن حول مصير الحركة والمعتقلين.
واليوم، بعد أن تبدّلت الظروف وتحسّنت الأحوال، لا يزال الراوي يحتفظ بذكرى تلك الأيام ممثلةً في دراعة اشتراها من نقود النضال. لم تكن مجرد قطعة قماش، بل رمزًا لحقبةٍ كانت فيها القيم أغلى من الذهب، والكرامة أثمن من المال.
كان ذلك الزمن جميلًا، ليس لأن الحياة كانت سهلة، بل لأن الناس كانوا أكثر بساطة، وأكثر تضامنًا، وأكثر إيمانًا بدولة الفضيلة، حيث العدل لم يكن مجرد شعار، والمساواة لم تكن حلمًا بعيدًا، والنضال لم يكن تجارة.
قد يرحل الزمن، لكن قيمه تبقى محفورةً في القلوب، تذكّرنا بأن المجتمعات لا تنهض إلا بأخلاق أبنائها، وأن النضال الحقيقي لا يكون بالسلاح فقط، بل بالكلمة، بالعلم، بالتضامن، وبالإيمان بأن الغد سيكون أفضل لمن يحملون شعلة الأمل.
لم يعد لسجن بيلا أثر في لكصر، فقد هُدم المبنى القديم ذو الهندسة المعمارية الكولونيالية، والذي شهد عبر العقود تحولاتٍ عدة: من مقر الحاكم الفرنسي لنواكشوط، إلى مقر حاكم بيلا، ثم سجن بيلا، وأخيرًا سجن النساء. وعلى أنقاضه، شُيّد لاحقًا مبنى مدرسة للتكوين المهني .
في الصورة الجماعية، يظهر معطى على اليمين.
كتبه: أحمد محمود جمال أحمدو
(بتصرف طفيف)