غاب الهدهد عن مجلس الكبار دون استئذان، فغضبوا عليه و توعدوه بالعقاب إذا لم يأتي بسبب مقبول لغيابه. وفي وقت لاحق حضر واعتذر عن نفسه وأخبرهم عن نبأ المملكة الزرقاء.
بعد 10 سنوات من المغامرة والسباحة في بحر المملكة الزرقاء، قال الهدهد في نفسه مالي أرى بعض سكان هذه المملكة (أقول بعض ولا أعمِّم) يتهافتون على الشكل أكثر من المضمون، وعلى المظهر أكثر من الجوهر، وعلى الكلام أكثر من الفعل، وعلى الأشخاص أكثر من الأفكار، وعلى التلاسن و التلاحي أكثر من الحوار، وعلى التدابر أكثر من التعاون والتضافر؟ ومالي أراهم يمجدون "اللاءات": لا نظام، لا سلطة، لا دولة، لا وطن، لا إنجاز، لا سلف، لا حاضر، لا مستقبل، إلى آخر ذلك من مظاهر التشاؤم والقنوط. ينتقدون النواقص والاختلالات ولا يقترحون البدائل. ويملأون الشارع الافتراضي بعبارات السخط والتظلم والامتعاض، و يهجرون الشارع الواقعي هِجرانا.
أسر الهدهد هذا الانطباع في نفسه، لكنه تساءل هل هم المسؤولون حقا عن المملكة التي نشأوا فيها؟ أليس كبار السن هم من قاموا بتربيتهم وتعليمهم أصلا، وزرعوا في نفوسهم اليأس والإحباط؟ أليس هم من كانوا يشترون لهم وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكِّنون لهم في الهواتف المحمولة ومفاتيح التطبيقات؟ فكّر الهدهد في هذه الأسئلة وخلص إلى أن سلوك أهل المملكة يعكس العالم الذي خلقه لهم الكبار، و قال: إنهم رغم المعاناه أكثر انفتاحا وقبولا للاختلاف، وأكثر قدرة على النقد والابداع، وأكثر تعلما وقربا من التكنولوجيا، وأكثر وعيا بحقوقهم، وأكثر تعلقا بالحرية والعدالة رغم غياب الأيديولوجيات والمرجعيات والأيقونات.
غالبا ما ينتقدهم الكبار لأنهم ليسوا مثلهم، أو لأنهم يتعاملون مع الأشياء بطريقة مختلفة، وينسون مقولة الإمام علي بن أبى طالب، كرم الله وجهه: "أبناءكم لزمان غير زمانكم". لقد ولد هؤلاء الشباب ليعيشوا في مملكة "مُعَولمة" على شكل "قرية صغيرة" تئن تحت وطأة "السرعة" و"المظهرية" و"السوق" و"الماديات" و"الاستهلاك". العولمة جعلت البشر والدواب والحجر والشجر "سِلعا" أو "أشياء" تباع وتشترى. وقلبت البناء الهرمي للقيّم الذي بات يرتكز على فكرتَي "النفع والمصلحة". وبالنظر إلى هذه البئية الطاردة قال الهدهد: انصفوا الشباب، إنهم هاهنا يواجهون ويقاومون مطبات ومشكلات كثيرة في عددها، حادة في تأثيرها، متشابكة في تركيبها، لم يعرفها أحد من العالمين. يخوضون "معركة حياة" في عالم مَوبوء وضَع آخرون قواعده و رسموا معالمه. لا لوم عليهم ولا عتاب، بل اللوم على "الكبار" الذين أورثوهم هذا الحال، وجاؤوا على "الأخضر" وتركوهم في "الأزرق" يعمهون.
عاد الهدهد من جولته، وكأني به يقول في مجلس الكبار: أحطتُ بما لم تحيطون به، وَجِئْتُكم مِن المملكة الزرقاء بِنَبَإٍ يقين. وجدتهم يلهثون وراء الهواتف والحواسيب من دون القلم والكتاب، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وكانوا طرائق قددا. بالمُجمَل هم أناسٌ طيِّبون، و بالمُفصّل تعرف منهم وتنكر… أحترم بعضهم، وأشفق على بعض، وأتوب إلى الله من بعض.
(-1)