صباح اليوم في "كولوبا" القصر الرئاسي في باماكو.. عودة إلى حمل عصا الترحال الدبلوماسي بعد أن انقطعت عنها لمدة سنوات كان اهتمامي فيها منصبا على البحث العلمي والإستشارة الدولية والتأليف..
ذكرياتي مع مالي تعود لأكثر من عشر سنوات.. في البداية كنت مهتما بدراسة التاريخ الثقافي والسياسي الحافل لهذا البلد الشقيق والجار ذي القربى.. ثم أغراني ثراء وسحر امبراطورية الذهب وملكها "منسى موسى" الذي يصنف حتى اليوم بأنه أغنى رجل في التاريخ، بتتبع التطورات والأخطار الأمنية التي عصفت بمناطق كبيرة من مالي و منطقة الساحل مع تفجر ظواهر التطرف العنيف و الإرهاب منذ مطلع الألفية، قبل أن تنتدبني الخارجية لتمثيلها في مفاوضات السلام بين الحكومة المالية والحركات الأزوادية ضمن ما يعرف بمسار الجزائر 2014- 2015 الذي تكلل بتوقيع "إتفاق السلم والمصالحة" برعاية الوساطة الدولية.. للأسف لم يكتب أن ينفذ حتى الآن..
أما اليوم فأني أعود إلى مالي في سياق آخر مقلق بلا شك.. وهو ربما يستحق الرجوع إليه في سانحة أخرى..
بقي هذا القصر الأبيض العتيد فوق هضبة "كولوبا" التي تطل على باماكو، يمثل منذ 113 سنة تجسيدا لقوة السلطة ورمزا لقمة الدولة، وهي حاليا مقر القصر الرئاسي في البلاد حيث سبق أن طالب قسم من النخبة المالية بإعادة تسميته ليحمل إسم الإمبراطور "كايا ماغان سيسي" الذي كان في القرن الثالث، مؤسس سلالة "سيسي تونكارا" التي هيمنت طويلا على مملكة "واغادو" التي كانت النواة الأولى لإمبراطورية غانا (بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلادي)، حيث كان الذهب هو أساس ثروة تلك المملكة العظيمة، وكان لقب "كايا ماجان" يعني "ملك (أو سيد) الذهب".
في كل مرة أعود إلى باماكو وفي ذهني صور أيقونية تختصر أبرز معالم المدينة.. مع اقتراب وقت المغيب، تتكثف الرطوبة المنبعثة من بخار مياه نهر، وترتفع في السماء مُشكِّلةًً سُحبا خفيفة من الضباب الذي يلُف التِّلال المحيطة بالمدينة، عندها تبدأ رقصه آلاف الطيور المتجهة سراعا إلى أوكارها قبل حلول الظلام.. طقوس مغيب الشمس الذهبية رائعة في هذه المدينة الكبيرة.. التي كنت أرصدها في كل مرة من شرفة غرفتي بالطابق السادس في فندق أزَلايْ السلام في قلب المدينة النابض بالحياة..
إنها باماكو التي يسكنها اليوم حوالي ثلاثة مليون نسمة، والتي تقع في حوض محاط بالتلال على ضفاف نهر النيجر الجميل. قرية الصيادين الصغيرة التي تعني في اللغة البامبارية "بركة التمساح" تأسست في نهاية القرن السادس عشر على أيدي رجال من مجتمع "نياري"، الذين تعود أصولهم إلى قومية السُّونونْكي، حيث كان التمساح قديما يمثل تعويذة لحماية المدينة، قبل أن يحتلها الفرنسيون سنة 1883 بقيادة الجنرال جوستاف بورني دي بورد، الذين قاموا بتشييد "البيت الأبيض الإفريقي" فوق هضبة "كولوبا" التي تطل على المدينة وعلى النهر..
ولعل من غربب الصدف أن أعود فجر اليوم إلى نفس الفندق ونفس الطابق المطل على النهر العظيم حيث تظهر أمامي لوحة طبيعية رائعة..
في الصورة مع أخ وصديق قديم طيب بأخلاقه ومقتدر في عمله هو حضرات عبد الله ولد سيدي عالي، الملحق العسكري في سفارتنا بباماكو..