
محمد محمود ولد أحمد اتلاميد التركزي، ولد في بداية القرن الثالث عشر هجري, ٍ1829م في ضواحي اشرم بولاية تكانت وسط موريتانيا، حيث نشأ و ترعرع في أسرة علم و معرفة، لقب والده باتلاميد نسبة إلى خيمة كان يخصصها لتدريس التلاميذ فكان إذا أراد أحدهم السؤال عنه يقول أين خيمة اتلاميد؟ ثم اشتهر بها.
و من مكانة والده العلمية نال هو أوفر الحظ في التربية و المعرفة، التي خولت له الصدارة في في قائمة أعلام البلاد..
بدأ دراسته في سن مبكرة على يد أفراد أسرته و خاصة والده، يقول عن نفسه:
غذاني بدر العلم أرأف والد # و أرحم أم لم تبتني على غم
و لم يفطماني عنه حتى رويته # عن الأب ثم الأخ و الخال و الأم
و عن غيرهم من كل حبر سميدع # تقي نقي لا عي و لا فدم
ثم رحل في مراهقته إلى اللغوي الماهر عبد الوهاب بن اكتوشني العلوي بأرض الكبلة، حيث تبحر على يديه في اللغة، كما أخذ العلم عن غيره من علماء البلد..
رحلته:
و بما أن الإنسان بطبعه تواق إلى اكتشاف المجهول, و الرحلة هي الطريقة المثلى لتحقيق ذلك، وكذلك قد يكون السفر هدفا بحد ذاته، إلا أنه عند الشناقطة لا يكون لا يكون إلا لهدف، و الغالب أن يكون ذلك الهدف أداء فريضة الحج و الازدياد من العلم و البحث و الاطلاع على ما استجد من كتب و أبحاث في المجالات العلمية المختلفة. و بما أن عالمنا معروف بعلو الهمة، و بعد أن ارتوى من العلوم الموجودة في البلد، اشرأبت نفسه إلى اكتشاف العالم.. فقرر الرحيل إلى الحجاز، فكانت رحلته إلى الحج، حيث مر بمدينة تيندوف و لقي فيها الشيخ بن بلعمش و درس عليه الحديث و علومه.. و تابع رحلته إلى مكة المكرمة ليكون على موعد لموسم الحج سنة 1283 هجرية.
و بعد أداء فريضة الحج فضل الإقامة هناك، حيث لقي أمير مكة الشريف عبد الله و الذي كان معروفا بمحبته لأهل العلم و تكريمهم، و قد أعجب الأمير بابن اتلاميد إعجابا شديدا و أكرمه، و كان يقيم عنده زمنا و يذهب إلى المدينة المنورة ويعود.
ثم اتسعت رحلته لتشمل مصر و الشام و تركيا.. كل ذلك بحثا عن الكتب لمطالعتها و استنساخها، مما اكسبه معرفة واسعة بكثير من أهل العلم و السلاطين..
حتى في أوساط الأوربيين و المستشرقين حيث كان محل إعجاب و اعتبار من لدن الجميع بل أنهم جعلوا منه معجزة زمانه في الحفظ و العلم و سعة الاطلاع.
و قد استدعاه السلطان عبد الحميد الثاني حين علم بقدومه إلى القسطنطينية فأكرمه و أجله و عرف قدره و كلفه سنة1304ه بمهمة البحث عن الكتب العربية في اسبانيا، و هو ما يعتبر بحق شهادة من الخلافة العثمانية لهذا العالم الشنقيطي بالجدارة و الاستحقاق لتحمل قضايا الأمة الاسلامية و البحث عن موروثها العربي الإسلامي .
وافق ولد اتلاميد على القيام بتلك المهمة النبيلة مشترطا على الخليفة شروطا كان أولها عزل ناظر وقف المالكية بالمدينة المنورة الذي كان يحرم الشناقطة من حقوقهم في الوقف، و يعكس هذ الشرط مدى اهتمام ابن اتلاميد بقضايا أمته الشنقيطية حيث ما حل و متى سمحت له الفرصة.
و بعد الاتفاق بين ولد اتلاميد و الخليفة على أساس القبول بكل الشروط ، جهز الخليفة لابن اتلاميد سفينة و مرافقين له لخدمته في تلك الرحلة.
فذهب ولد اتلاميد في رحلته التي قادته إلى الأندلس أولا، فلندن و باريس، و بعد مدة من إقامته في تلك الأماكن أنجز مهمته ودونها في كتاب سماه: أشهر الكتب العربية الموجودة في خزائن دولة اسبانيا
و قد عانى ابن اتلاميد خلال رحلته و مدة إقامته في باريس و الأندلس من وحشة شديدة طال بها ليله و حن إلى مكة و المدينة المنورة فقال في ذلك شعرا كثيرا منه:
ما ليل طول و لا ليل التمام معا # كليل باريس أو ليلي بأندلس
لم أدر أيهما أقوى محافظة # على الظلام و حجب الصبح بالحرس
كما كتب قصيدته الرائعة التي عبر فيها عن حنينه إلى مكة و المدينة و صور فيها جميع مراحل الرحلة و ما عاناه فيها من الغربة و ما شاهده من الخراب و الدمار الذي لحق بالجزيرة الأندلسية على يد الغزاة و ما آلت إليه كتبها و مكتباتها .. فرثاها أصدق رثاء وبكاها أحسن بكاء في قصيدة مطلعها:
يا ريح طيبة هبي لي صباحا مسا # و استصحبي من أريج المصطفى نفسا
و استصحبي من أريج الصاحبين شذى # يفوق مشمومه المشموم و الهبسا
و بعد رحلة حافلة بالأخذ و العطاء وجد فيها ابن اتلاميد ضالته و تمتع و رتع في رياض الكتب و المكتبات ، عاد يحمل معه لائحة بأسماء الكتب المطلوبة من اسبانيا، و فور عودته أرسل إليه الخليفة يطلب منه لائحة الكتب ، غير أن ابن اتلاميد امتنع عن تسليمها قبل أن ينفذ الخليفة مالتزم به له و هو ما أغضب الخليفة عليه.
و بعد ذلك و في سنة 1306 ه بعث ملك السويد اسكار الثاني في إطار التحضير لعقد المؤتمر الثامن للعلوم الشرقية باستكهلم ، إلى السلطان عبد الحميد يطلب منه أن يبعث إليه بوفد من أبناء العرب يسألهم عن القرآن و اللغة و أشعار العرب و أن يكون الوفد برئاسة محمد محمود بن اتلاميد، و هو ما يؤكد انتشار صيت عالمنا حتى في أوساط الأوربيين .
فوافق ولد اتلاميد على طلب الخليفة ، مؤكدا على التزامه بالشروط التي سبق أن طرحها على الخليفة مضيفا إليها أن يكون سفره إلى السويد لرفع شأن الإسلام و المسلمين، و بأن يختار من علماء اللغة العربية من يرافقه.
و نظرا لأهمية الموضوع و جديته قام السفير السويدي في مصر بزيارة لابن اتلاميد في مكان إقامته فرحا باستجابته لحضور المؤتمر و هو ما رآى فيه ابن اتلاميد فرصة ذهبية لإسماع صوت الإسلام و إبرازه للعالم .
فنظم قصيدة رائعة بلغت 205 بيتا ليلقيها في المؤتمر ، إلا أن الخليفة لم يستجب لطلبات ابن اتلاميد و هو ما جعله يرفض المشاركة في المؤتمر حتى تتحقق شروطه، فاشتد غضب الخليفة عليه و نفاه إلى المدينة المنورة و بقي فيها إلى أن ضايقه عامل الخليفة هناك، فقرر الرحيل إلى مصر .
و في مصر ألف العديد من الكتب القيمة لتزيد من مخزون مخطوطاته الثرية.
دعوته للشناقطة للاستفادة من كتبه:
ترك عالمنا ما يزيد على ألفي مخطوط من نوادر المخطوطات العربية، و كتب على أنها وقف على عصبته من أهله ثم على الشناقطة من بعدهم، حيث قال:
فدونكم معشري كتبا مهذبة # من حسن ما قد حوت لا ينقضي عجبي
كفيتكم جمعها مستبشرا جدلا # بشق نفسي بالإيغال في الطلب
يود ذو العلم و الفهم الأصيل قوى # تصونها فيه بين اللحم و العصب
يحوي معانقها طول الزمان غنى # يغني عن الفضة البيضاء و الذهب
و حلو طعم معانيها على ظمإ # أحلى من البرد الممزوج بالضرب
قد قيدتني بأرض غير أرضكم # تقييد عان بلا كبل و لا سبب
و سركم سنكم إبلا مؤبلة # من المعيدي في السعدان و الريب
أليس منكم فتى بالرشد متصف # يفري الفري و يأتي أعجب العجب
يطوي المفاوزة قد ضمت جوانحه # قلب السليك عدا في الدرع و اليلب
حتى ينيخ ببابي غير مكترث # لما يلاقيه من هول و من نصب.
و قد لحق بابن اتلاميد خلال إقامته بالمشرق أخ له يدعى الأمين، و أقام معه إلى أن توفي رحمه الله بالمدينة المنورة ، يقول فيه:
فعل الأمين أخي صنوى الذي سبقت # له العناية أنضى العيس في طلبي
حث النجائب لا يلوي على أحد # منكم يثبطه عن نيله رتبي
جاب البراري ثم البحر منصلتا # على ركائب لا تخشى وجن النقب
حتى أناخ لدى البيت الحرام لدي # فحاز ما يبتغي من مرتضى الأرب
قضى المناسك حجا عمرة تفثا # مناسكا هن حقا أصعب القرب
قفاهما حججا تقتافها عمر # في سعيها راحة تنسي أذى التعب
فقرت العين بالجمع الصحيح به # و جد في العلم كل الجد بالأدب
و طابت أنفسنا مستمتعين بذا # و نال مني يقين العلم من كتب
غذاؤنا العلم صرفا لا مزاج له # من الأغاليط و التمويه و الشغب
عشنا معا عيشة في طيبة رغدا # و في البقيع ثوى في أطيب الترب
و سرت منها إلى مصر البلاد و قد # صارت لي الآن ملقى الرحل و القتب
و كان لابن اتلاميد ولد وحيد توفي في صغره .
أقام محمد محمود بن اتلاميد في مصر إلى أن توفي رحمة الله عليه في منزله قرب جامع الأزهر يوم الجمعة 23 شوال 1322 ه و قد أشرف على جنازته زميله محمد عبده الذي أوصاه بمكتبته .
فهل من مستجيب لطلب محمد محمود من الأهل و من الشناقطة لتنفيذ وصيته و نقل كنز كتبه العريقة لوطنه؟.
خديجة بنت عبد الله