... بعد أن أخذ الركاب مقاعدهم وشدوا الأحزمة، وأغلقت صناديق الأمتعة، وتسارعت حركة الطاقم بين المقاعد؛ استهل قائد الرحلة حديثه المعتاد بتقديم التهانئ والتمنيات للحجاج الروس العائدين إلى بلادهم والذين هم أغلب ركاب الطائرة.
يبدو أن تعليمات السلامة أصبحت ترد مباشرة من تطبيقات الشاشة فلم يعد هناك ما يمس "حرمة الشرع أو شعور الناس"
بدأت الإشعارات المنذرة بقرب الإقلاع تتوارد؛ فبدا لي مرة أخرى بادي الحسن والدقة من الوصف الذي استهل به العلامة محمد فال بن باب رضي الله عنه أبياته الوداعية عند ركوبه السفينة في بداية رحلة الحج حيث يقول:
أقول إذ ضم سطح الفلك جملتنا
باسم المهيمن مجراه ومرساه
وقامت السود للأمراس تجذبها
تُلقي المراسيَ بالبابور أعلاه
من بعدما كرَّر الإعذار سائسه
بالنفخ في الصور يمناه ويسراه
وإنه لمن تباشير اليمن أن يستحضر المسافر بعض وقائع تلك الرحلة في مثل هذا الموقف.
أقلعت الطائرة وبدأت تشق طريقها إلى موسكو في رحلة ستمتد خمس ساعات من الطيران.
أثناء متابعتي لخط الرحلة عبر الشاشة، وعلى أجواء الأراضي الإيرانية، وقع بصري على أسماء مواضع عرفتها وأنا في أقصى الغرب كما عرفت مشاهير أسلافي؛ لترددها علينا في النصوص المحضرية وكثرة من ينسب إليها من العلماء والأدباء، تبريز، كرمان، شيراز، أصبهان...
فإلى شيراز ينسب الإمام إبراهيم بن علي بن يوسف، أبو إسحق صاحب اللمع، والطبقات، وينتسب أبو علي الفارسي.
وإلى تبريز ينسب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي اللغوي شارح ديوان الحماسة وديوان المتنبي.
وتبريز مما استُجدت عمارتها واختطاطها في الإسلام على يد محمد بن القاسم بن أبي عقيل ابن عم الحجاج.
وإلى كرمان ينسب علي بن جديع بن علي الكرماني الذي ورد ذكره في عبارة نصر بن سيار المشهورة في طرة العلامة الحسن بن زين الشنقيطي على لامية الأفعال لابن مالك :"أرحبكم الدخول في طاعة الكرماني"
ويذكر كرمان حمير السعدي في أبياته السائرة:
أيا شجرات الكرم لا زال وابل
عليكن منهل الغمام مطير
سقيتن ما دامت بنجد وشيجة
ولا زال يسعى بينكن غدير
ألا حبذا الماء الذي قابل الحمى
ومرتبع من أهلنا ومصير
وأيامنا بالمالكية إنني
لهن على العهد القديم ذكور
ويا نخلات الكرخ لا زال ماطر
عليكن مستن السحاب درور
سقيتن ما دامت بكرمان نخلة
عوامر تجري بينهن نهور
لقد كنت ذا قرب فأصبحت نازحا
بكرمان ملقى بينهن أدور
وإلى أصبهان ينسب أبو نعيم صاحب حلية الأولياء، وأبو الفرَج صاحب الأغاني، وقد حصل لابن عاصم الغرناطي في قوله في مرتقى الوصول: الأصبهاني والأبهري" سهو معروف نبه عليه المدرسون والمحشون؛ حيث عبَّر بالأصبهاني عن أبي الفرج البغدادي المالكي؛ فنسبه إلى أصبهان؛ لشهرة أبي الفرج الأصبهاني.
وغير بعيد عن هذه البلدان يلوح اسم طهران -بكسر الطاء كما في معجم البلدان- العاصمة الحالية للدولة الإيرانية، ينسب إليها جماعة من المحدثين منهم عقيل بن يحيى الطهراني، وإبراهيم بن سليمان أبو بكر الطهراني، وغيرهم.
يذكر المؤرخون أن طهران قرية من قرى الري، ومما يأنس به الغريب في مشارف الري أن يستمع إلى حديث عوف بن المحلم مع عبد الله بن طاهر في هذه الناحية؛ "حدث أبو المحلم عوف بن المحلم الشيباني قال كانت لي وفادة على عبدالله بن طاهر إلى خراسان فصادفته يريد المسير إلى الحج فعادلته في العمارية من مرو إلى الري فلما قاربنا الري سمع عبد الله بن طاهر ورشانا في بعض الأغصان يصيح فأنشد عبد الله بن طاهر متمثلا بقول أبي كبير الهذلي:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر
وغصنك مياد ففيم تنوح
أفق لا تنح من غير شيء فإنني
بكيت زمانا والفؤاد صحيح
ولوعا فشطت غربة دار زينب
فها أنا أبكي والفؤاد جريح
ثم قال يا عوف أجز هذا فقلت في الحال:
أفي كل عام غربة ونزوح
أما للنوى من ونية فنريح
لقد طلح البين المشت ركائبي
فهل أرين البين وهو طليح
وأرقني بالري نوح حمامة
فنحت وذو الشجو القديم ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة
ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما
ومن دون أفراخي مهامه فيح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى
فتضحي عصا الأسفار وهي صريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقه
وعدم الغنى بالمقترين نزوح
فأخرج عبد الله رأسه من العمارية وقال يا سائق ألق زمام البعير فألقاه فوقف ووقف الخارج ثم دعا بصاحب بيت ماله فقال كم يضم ملكنا في هذا الوقت فقال ستين ألف دينار
فقال ادفعها إلى عوف ثم قال يا عوف لقد ألقيت عصا تطوافك فارجع من حيث جئت قال فأقبل خاصة عبد الله عليه يلومونه ويقولون أتجيز أيها الأمير شاعرا في مثل هذا الموضع المنقطع بستين ألف دينار ولم تملك سواها قال إليكم عني فإني قد استحييت من الكرم أن يسير بي جملي وعوف يقول "عسى جود عبد الله" وفي ملكي شيء لا ينفرد به.
ورجع عوف إلى وطنه فسئل عن حاله فقال رجعت من عند عبد الله بالغنى والراحة من النوى".
لم أصادف أثناء تتبع خط الرحلة نهر جيحون الذي كنت أتوقع رؤية اسمه عند دخول مجال ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي، فلعله لم يكن قريبا من مسار الرحلة، ونهر جيحون هو النهر العظيم الفاصل بين خوارزم وخراسان وبين بخارى وسمرقند، ويسمى ما وراءه ببلاد ما وراء النهر، كبخارى وسمرقند والشاش .. وهي التي أنجبت أئمة أعلاما كالإمام البخاري وأضرابه.
كانت للمسافة بين دبي وموسكو خصوصية كبيرة بالنسبة لي حيث استطعت أن أبعث برسائل من الفضاء إلى الأهل والأصدقاء عبر الأنترنت باستخدام (الويفي) المتاح على متن الطائرة.
أثناء البحث عن نهر جيحون بدأت الطائرة تأخذ وضعية الهبوط في مطار domodedovo وهو أحد مطارات موسكو الأربعة.
في حالة هبوط الطائرة أو إقلاعها ينحسر ظل السياحة والنزهة، ويتقلص هامش الفضول والتفرج على الشاشات؛ والذي جرى به العمل في مثل تلك الحال طي صفحة البشر والإقبال على الله والاشتغال بالأذكار حتى تستوي الطائرة.
هبطت الطائرة في المطار المذكور في الساعة الواحدة وخمس وثلاثين دقيقة ظهرا، ودرجة الحرارة خارج الطائرة سبع وعشرون درجة مئوية، فتبدد ما كان ينتاب بعضنا من الذعر لما كنا نسمع من برد هذه البلاد.
التقم النفق المعد لخروج الركاب باب الطائرة فنفذنا منه إلى داخل المطار ، وعند أول باب منه وجدنا إحدى الموظفات في انتظارنا وهي تلوح ببطاقة تحمل أسماءنا؛ تعرفنا إليها ففتحت لنا الباب وأغلقته وراءنا في وجوه بقية الركاب وهي تعتذر إليهم، بدأنا ندرك حينئذ أننا لم نعد مسافرين عاديين بل أصبحنا ضيوف دولة، ودخلنا عالم المراسيم والتشريفات.
مرت بنا الموظفة على مكتب للتدقيق في الجوازات كأنه معد لنا على وجه الخصوص، وفي انتظار استكمال الإجراءات كنا نتبادل النظرات مع الإخوة الذين وقفوا لاستقبالنا وراء الحاجز الزجاجي الذي يفصل بيننا.
خرجنا إلى الإخوة وبعد التحية انطلقنا إلى قاعة الضيافة في ناحية من مبنى المطار؛ فجلسنا على مقاعد وثيرة مريحة ثم أدينا في إحدى الغرف صلاة الظهر والعصر جمعا وقصرا لأن إجراءات السفر إلى كروزني ستبدأ بعد قليل ولن يكون الوصول إليها إلا بعد غروب الشمس.