امتلأت بطون كتب الأدب والتراث العربيين بحكايات أشعب مع الطعام وشرهه وحضوره الولائم
سنان ساتيك
تتسلل روائح الطعام الشهية إلى أنف أشعب، فالطعام منثور فوق موائد تحتوي أطعمة وأشربة بأصناف متعددة، حيث يقتحمها بلا استئذان وبلا دعوة من أحد، يستقر أمامها فينهش الطعام ويزدرده بسرعة، وذلك كي يأكل مقدارا أكبر خوفا من أن يسبقه الآخرون إلى ما يبتغيه.
من هو أشعب؟
أشعب؛ صاحب المثل في الطمع وذو النوادر فيه، وهو أشعب بن جبير واسمه شُعيب وكنيته أبو العلاء، كان يُقال لأمه أمّ الخَلَنْدَج، وقيل بل أم جميل، وهي مولاة أسماء بنت أبي بكر واسمها حُميدة.
نشأ أشعب بالمدينة في دور أبي طالب، وتولت تربيته وكفلته عائشة بنت عثمان بن عفان، أما أبوه فكان مولى لآل الزبير، حيث خرج مع المختار الثقفي فقتله مصعب بن الزبير.
كما ورد في الأغاني: أخبرني الجوهري قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل اليزيدي قال: حدثني التوزي عن الأصمعي قال: قال أشعب: نشأتُ أنا وأبو الزناد في حِجر عائشة بنت عثمان، فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا هذه المنزلة[1].
وقيل هو أبو العلاء أو أبو القاسم شعيب بن جبير، وُلد سنة تسعة للهجرة في المدينة المنورة لأب من مماليك عثمان بن عفان، وعاش طويلا حتى بلغ عهد الخليفة العباسي المهدي.
يحكي ابن حجر عن أشعب بأنه يُعرف بابن أم حميدة. له نوادر، وقلما روى، حدَّث عنه معدي بن سليمان وأبو عاصم وحَميدة، وبأنه توفي سنة 154 للهجرة. له ترجمة في تاريخ دمشق وتاريخ بغداد، ويُقال اسمه شعيب ويُكنّى بأبي العلاء وأبي إسحق، وقيل هو ابن أم حُميدة، وزعم الجاحظ أنه قدم بغداد زمن المهدي، ويُقال إنه وُلد في خلافة عثمان بن عفان.
إعتاق بإغماد السيف
ويُنقل عن أشعب أن أباه وجدّه كانا موليي عثمان بن عفان، وأن أمه كانت مولاة لأبي سفيان بن حرب[3]، فقد تربى في بيت عثمان بن عفان على يد عائشة ابنته، وذكروا أنه كان مع عثمان لما حُصر فجرّد مماليكه السيوف ليقاتلوا، فقال لهم عثمان ”من أغمد سيفه فهو حُرّ“، فقال أشعب ”فلما وقعتْ والله في أذني كنتُ أول من أغمد سيفه فأُعتِقت“.
ويُروى في الأغاني: أخبرني أحمد قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني محمد بن عبد الله عن الهيثم بن عدي قال: قال أشعب ”كنتُ ألتقط السهام من دار عثمان يوم حوصر، وكنتُ في شيبتي ألحق الحُمُر الوحشية عدواً“[4].
أشعب.. نموذج الشره
امتلأت بطون كتب الأدب والتراث العربيين بحكايات أشعب مع الطعام وشرهه وحضوره الولائم، مترصدا إياها مقبلا عليها، فذُكر في الحيوان والبيان والتبيين للجاحظ، وعند ابن كثير في البداية والنهاية، وفي نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري وغيرها.
تُجسّد هذه الشخصية حالة الجوع والشره الدائم للطعام، مبينة الانقسام الطبقي والمجتمعي، ومصورة حالة اجتماعية سائدة في ذلك العصر ربما لم يتطرق إليها الدارسون لدراستها دراسة وافية، ليكون أشعب نموذجا عنها.
جليس الأمراء
يأتي معنى أشعب في لسان العرب ”أشعب الرجل إذا مات أو فارق فراقاً لا يرجع“، وفيه أن ”أشعب اسم رجل كان طمّاعا“، وفي المثل ”أطمع من أشعب“، وفي مثل آخر ”لا تكن أشعبَ فتتعبَ“، وأشعب هو التيس إذا انكسر قرنه.
صوته حسن يجيد القراءة، إذ ينقل الأصفهاني بحديث متواتر عن الأصمعي قوله ”رأيت أشعب يغني وكأن صوته صوت بلبل“[5].
وتروي كتب الأدب جلوسه في مجالس الأمراء والخلفاء يسرد الدعابات، فنسبت إليه نوادر امتزجت بنوادر غيره من ظرفاء العرب، لكن اتفق على أنه ذو حس دعابي، شره للطعام.
تجوّل أشعب مكتسباً خبرات ومعارف وفكاهيات تُرجمت إلى لغات عدة، فقد جاب الشام والعراق في أيام المنصور[6] الذي تجمعه نوادر كثيرة مع أشعب في مجلسه.
كما أن أشعب ذو علم، فهو قارئ للقرآن وحافظ له، ويروي كثير ممن عاصروه ونقلوا عنه أنه من قراء القرآن، وكان قد نسك وغزا، وكان حسن الصوت بالقرآن، وربما صلّى بالناس القيام[7]، لكن هزله ودعابته صرفا الناس عن محاسنه ومناقبه، وغلب طمعه على صفاته الأخرى.
الكوميديان الظريف
اتسم أشعب بشخصية يُلوّن بها نكاته وطُرفه، فبدا رجلا مُهرّجا ذا حسّ دعابي، يتجمع الناس حوله ليستمعوا إلى ما يلقيه، فقد كان طيب العشرة يُحسن القراءة ويجيد الغناء مُتكسّبا به، دعاباته حسنة، فهو ذكي سريع البديهة، وردوده مفحمة لمن أراد السخرية منه.
كان أشعب أزرق العينين أحول أكشف (منحسر مقدم شعر رأسه) أقرع[8]، لذا امتلك ميزة جعلته نموذجا نمطيا للرجل الفكاهي، وقد صُوِّر على أنه مغفل وأبله، بعكس صفاته الحقيقية وردوده الحسنة التي توحي بعلم ودراية واسعين، وظرفه الذي كان يستجلب الآخرين ليحكوا نوادره.
صار أشعب ”كوميدياً“ بمقاييس ذلك العصر، وذلك بشخصية ذات صفات فكاهية خالطها تحريف كثير حتى لم نعد ندري الصواب منها، لذا جعله مصطفى مبارك رائد الكوميديا الارتجالية في المسرح العربي،[9] وآخرون قالوا عنه ”إنه أول مهرج محترف وممثل هزلي في تاريخ العرب“.
وضع توفيق الحكيم كتابا عن نوادر أشعب وظرافته يحكي في إحداها ”لبث أشعب يسير في الأسواق في غير شيء، ينتظر أن يوافيه أحد بخبر عرس أو وليمة وهو ينشد ويغني، وطال انتظاره، ووقف على رجل يحمل طبقا من الخيزران فقال له ”أسألك بالله أن توسعه قليلا وأن تزيد فيه طوقا أو طوقين“، فرفع الخيزراني رأسه وقال له ”وما غرضك من ذلك، أتريد أن تشتريه؟“، فقال أشعب ”لا، ولكن ربما اشتراه شخص يهدي إليّ فيه شيئا ذات يوم“.
أشعب.. العابر للعصور
نقلت كتب التراث شخصية أشعب وحكاياتها، فمن ذلك ما حكي في نهاية الأرب في فنون الأدب أنه كان يقول ”كلبي كلب سوء، يبصبص للأضياف، وينبح على أصحاب الهدايا“[11].
ومن نوادره أيضا أنه حضر على مائدة أحد الأمراء فقدم للأكل جِديا مشويا، فانهال عليه أشعب وجعل يسرع في الأكل بنهم وشراهة، فقال له صاحب الدعوة ”أراك تأكل الجدي بغيظ وحرد وكأن أمه نطحتك“، فردّ أشعب ”وأنا أراك تشفق عليه، وكأن أمه أرضعتك“.
بهذه الإجابة تتجلى ردود أشعب السريعة التي لا تخلو من حنكة وظرف تمكن منهما، ومن تمرس وخبرة بالحياة يمتع بهما.
يروي أبو فرج الأصفهاني في الأغاني: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شُبة قال: حدثني إسحق الموصلي قال: حدثني الفضل بن الربيع قال: كان أشعب عند أبي سنة أربع وخمسين ومائة، ثم خرج إلى المدينة فلم يلبث أن جاء نعيه[12].
عبرت شخصية أشعب الشره العصور، فلا تزال حكاياته وقصصه حيّة كونها بسيطة من المجتمع تعود إليه بروحه نفسها، فلاقت استحسانا من الناس فتناقلوها، لتبقى مُستذكَرة في التراث العربي بنوادر مستظرفة وحكايات مستحسنة صنفته واحدا من ظرفاء العرب.