في ثنايا تقييم الحكومة الجديدة، يستفيض الحديث، بشكل غير مسبوق، عن وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الاصلي، وعن وزيرها الجديد، الفقيه الشاب الضليع في تراث المحظرة؛ وقد اختلفت وتباينت وجهات النظر في تقاطعات ذلك الحديث، ولكل مسوغاته ومبرراته ومرجحاته ومرجعياته!
شخصيا لست معنيا بمن يشغل وزارة ما، لا بشخصه ولا بحسبه أو نسبه، ولا حتى بمستوى تحصيله العلمي، أو التزامه بالفروض الدينية العينية؛ بقدر ما يهمني الإنجاز الملموس الذي يتحقق بمعرفة الجميع في فترة هذا الوزير أو ذاك؛ لذلك فمن النادر جدا أن تجدني مهنئا أو مواسيا، في تعيين وزير، أو عزل آخر!
يهمني اليوم أن أقدم شهادة لله، بشأن هذه الوزارة التعيسة التي نشأت في أوائل السبعينات من القرن العشرين، وحملت عنوان الشؤون الإسلامية، مرة، والتوجيه الإسلامي تارة، وأضافت إلى أحدهما التعليم الأصلي حينا، والثقافة تارة، والعدل أخرى، ومحو الأمية مرة، والأوقاف، فينة؛ ثم تعاقب عليها مع الإداريين والحقوقيين، كبار العلماء والقضاة وصغارهم، وكبار الأئمة وشيوخ الطرق والمحاظر وصغارهم، وأجاود الطلبة والمريدين ومن دونهم.
المشكلة الحقيقية لهذه الوزارة، أنها، وهي معنية بقطاع شعبي واسع، غير مصنف، شديد الحساسية، بالغ الهشاشة، ظلت تسير وفقا لمفاهيم الإقطاع والخطط السلطانية العتيقة، المستخرجة من مدافن التاريخ؛فهو قطاع لم يشكل قط مشغلا من مشاغل الدولة الموروثة عن الاستعمار، أو موردا في أبواب الميزانية العامة؛ بل ظل مجرد مرصد رسمي لحالة غير رسمية، يصرفها الكثير من التقاليد المتناقضة المتنافرة، تسندها الرغبة والهوى، والدور الاكبر في تحريكها للمطامع؛ حتى حل عصر الغلو والتطرف والإرهاب، فانضاف إلى المطامع أضعافها من المخاوف.
إذا أردنا تبسيط المعنى، فإن أيا من الوزراء وكبار المسؤولين في هذه الوزارة، دخلوها ثم غادروها، ولم يعرف أحد منهم قط، حق المعرفة، المهمة الوطنية المنوطة بالقطاع، فكان الفشل المتراكم حظه ونصيبه، عبر العقود؛ كيف لا، وقد ظلت اوصاله طوال الزمن أبرز بؤرة للفساد المستشري، حتى وهو دولة بين كبار العلماء والمشايخ والائمة؟ مع أنه القطاع المسؤول، افتراضا، عن إقامة الدين، وإرساء قيم الحق والعدل، وإشاعة العلوم وتطوير المعارف الدينية.
دعونا نقف وقفة سريعة للتفتيش عن أي أثر فعلي للوزارة، في خدمة الإسلام، خلال ما يقرب من نصف قرن؛ ولنقتصر في بحثنا على الاركان الخمسة التي لا إسلام دونها؛ وأهمها ركن الإيمان؛ فقد فشلت وزارتنا لشؤون الدين، في بلورة منهج إيماني مبسط، بعيدا عن جدل وتناقضات المجتمعات المنقرضة، منهج يستند إلى الكتاب المبين، وإلى ما يحصل به العلم من حديث سيد المرسلين، وإلى استعراض آيات الله في الأنفس والآفاق، وما فتح للناس في عالم الشهادة من حجج دامغة بالغة نحو الإيمان بعالم الغيب؛
ثم لا هي أقامت ركن الصلاة؛ فكم بنت الوزارة من الجوامع والمساجد، هل جهزتها، او صانتها، او وفرت احتياجاتها، أو وحدت مواقيتها، أوكونت أئمتها، أو انفقت على مرافقها ومياهها وضيائها وخدمتها؟ لقد اكتفت الوزارة في كل ذلك بمسايرة الفوضى العارمة القائمة في هذا القطاع، وهي فوضى لم يستطع معها المواطن القيام بركن الصلاة، بشكل جماعي منضبط، كما أمر الله، ففيها ضاعت الصلاة وإذا ضاعت فإن ما سواها أضيع وأضيع،
أما الزكاة، فهي الفريضة الغائبة، طوال ااوقت، رغم منزلتها المتقدمة بين الأركان، وأهميتها الاقتصادية، في مجتمع أكثر من نصفه من الفقراء المدقعين، وقد فرضت الزكاة لتنتشلهم وترفع من مستوى حياتهم؛ والخطاب بها يشمل كل من تقلد ولاية عامة للمسلمين، يجمعها من الأغنياء بالمعروف، ويوزعها على مصارفها بالمعروف؛ فلا السلطة في دولة إسلامية قامت بما يجب عليها، دولة ومجتمعا، وما تحاسب عليه جماعات ووحدانا، ولا الأغنياء بادروا بتنظيمها وتقديمها طيبة بها نفوسهم، لمستحقيها، ولا الخدمات الوطنية المفترضة أغنت الفقير والمسكين عنها!
ركن الصيام هو موسم حي، يلاحظ فيه، في كل عام، نشاط لافت في أوساط الوزارة ودوائرها؛ نشاط محركه الأساسي حملة "افطار الصائم" التي تنظمها الوزارة، وتقوم خلالها بتقسيم كميات من التمور والألبان، على عدد من المساجد المحظوظ أهلها؛ ون كان البرنامج يشهد منذ سنين، تراجعا وتناقصا ملحوظا؛ وحقيقة برنامج إفطار الصائم، عند التمعن، أنه ظل جعجعة، قل أن يظهر لها طحين، فإن ظهر اكتنفه كثير من الغبن والإقصاء والتهميش والمحسوبية، وفي الاثناء تنشط التجارات ذات الصلة بالتمور والالبان، وذلك بالتعويل على فساد البرنامج والقطاع. ولموسم الصيام بوابة فساد عريض، تمثل فرصة سنوية مجانية، لممارسة الاتجار بالممنوعات، والسياحة، والاستشارات الصحية، والهجرة لنيل الإقامة في آمريكا وأوروبا؛ بوابة يدلف منها الأهل والأقربون، وكل من يدفع.. إنها بوابة بعثات الدعوة السنوية!!!
وحده ركن الحج، من بين الأركان الخمسة، ينال عناية خاصة، وتتخذ التدابير المتعلقة به، تحت سمع وبصر الوزارة، من اعلى مسؤول بها، إلى الموظفين العاديين؛ وهكذا يتم ترقب موسمه، والتهيئة له وتأطيره والإشراف على قرعته، وتوزيع نسبه واستصدار التآشر للحجاج، وإبرام مختلف العقود المتعلقة بالنقل والإقامة والإعاشة، في المدينة ومكة والمشاعر، والتنظيم المباشر لكل خطواته، إلى أن يعود الحجيج إلى بيوتهم؛ ومن السهل تفهم هذه الخصوصية، فالحج عندنا موسم فساد استثنائي، تفوح روائحه القذرة، وتقرع سنان ابطاله وتسن المد ى لضحاياه، طوال العام، فهو يدر الملايين الحرام بألمئات، وليس بالعشرات!!!
تلك حالنا مع أمهات الشعائر الدينية وأركان الإسلام، في ظل الوزارة التي أنشئت لتيسر للناس ممارسة عباداتهم، بوعي وعلم وفهم، وبيسر يناسب حاجة وحال المجتمع الحديث، مع ضمان استيفاء الواجبات العبادية، وتلبية الأشواق الروحية، وتحقيق التوازن بين الدنيا والدين؛فما ذا عن التعليم الأصلي؟
الحديث عن التعليم الأصلي في بلادنا، هو حديث عن المحظرة ذو شجون وما ادراكم ما المحظرة؟ إنها تلك المؤسسة الأهلية المتطورة عن تراث عتيق، وقد حفظت للمجتمع القديم، وبمنج تعليمي عتيق يناسب الناس في باديتهم السائبة، وشظف عيشهم، وشيوع العبودية بينهم، وطغيان شرائحيتهم، وقبليتهم، وجهويتهم، وسطوة إماراتهم، وحربهم، وسلمهم، وأوضاعهم المتقلبة المقلقة؛ حفظت لمن شاء منهم حدا مقبولا من معرفة تكاليف الشرع وفرائضه، وحققت لمن أراد منهم شرطا مطلوبا للنبل والفتوة والادب!
لكن ذلك المجتمع القديم انقرض، ثم نشأ على أنقاضه مجتمع ينتمي إلى الدولة الجامعة، وإلى نظم التعليم العامة، وإلى الحياة المدنية، وإلى المواطنة المتكافئة؛ وشهدت الحياة فيه، بكل أبعادها، طفرة هائلة، و مارس الناس الحقوق والحريات والسياسة والديمقراطية، وباتت الدولة الأم الجامعة، ومقدمة الخدمات الأساسية للجميع؛ فأين المنهج التعليمي الأصلي الملائم لتلك الطفرة الوطنية، والحالة الإقليمية والقومية والدولية؟
إن محاظرنا التي تضاعفت عدة مرات عددا وطلابا وشيوخا، وفنونا، ماتزال تدرس فقه العبودية المنقرضة، وتعلم قوانين المجتمعات القديمة التي تنقسم الناس فيها إلى شريف ووضيع أمام القانون، وفي مناهج العقائد والمرويات، يتم حشو عقل المتلفي بمقولات تم استخلاصها من مناظرات الفرق والملل والنحل العابرة التي عرفتها أعصر متتالية من التاريخ، والقاعدة الجامعة لكل المعارف فيها، تقوم على الحدية الطائفية، والخلاف المذهبي.
إنها القاعدة العامة عينها، بل والتفاصيل التي تقوم عليها كل مناهج المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وجامعة العيون الإسلامية، ومختلف المعاهد الأهلية الإسلامية. والمفارقة العجيبة أن وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي، خلافا لكل مثيلاتها، مصرة، طوال الوقت، على استمرار تبعية تلك المعاهد والجامعات الإسلامية لها، لا لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي كما يجب!
أما بعد، فبدون إعادة النظر لمناهجنا الاصلية لتلائم حاضرنا ومستقبلنا، وتمكين الوزارة المعنية بالتعليم العالي من الإشراف على الجامعات والمعاهد الإسلامية، باعتبارها مؤسسات علمية، وتفرغ القطاع لتحديث مناهج الدين والتربية الإسلامية بإشراك الخبراء، مع إقامة أركان الإسلام الأساسية تعليما وتيسيرا وضبطا وتنفيذا، يظل عنوان الوزارة فارغا، بغض النظر عن يشغله .