في تاريخ الأدب العربي يرتبط ذكر الشعر أيما ارتباط بالغناء، رغم أن للشعر زخمه المشهود منذ العهد الجاهلي، وله حضوره في المحافل والمجالس، وللشاعر مكانته وهيبته بين القبائل، وفي بلاطات الملوك والساسة وقواد الجند.
ولا مراء في تأثير الشعر وسلطانه على القلوب، ولا جدال في أنه ظل ردحا من الزمن يمثل واجهة إعلامية مكينةً، ترفعُ من ترفعُ، وتضعُ من تضعُ، وتُروِّجُ لما ارتضاه الشاعر وجهةً؛ وتبقى آثارها ماثلةً مدى الأيام، متداولةً بين الرواة والمتلقين؛ ولذا ظل لسانُ الشاعر مخوفا ومرهوبا لدى الخاصة والعامة.
غير أن تأثير الشعر لم يكن يرجع إلى جمال الأسلوب، ونصاعة المعجم وجرْس القافية، بقدر ما كان يرجع إلى طريقةِ الإلقاء في المحافل، أو التغنِّي به على ألسنة المنشدين والملحنين.
وتُشير كتب تاريخ الأدب إلى وقفاتٍ جميلة للغناء مع الشعر؛ حيث يُرَوِّجُ له، ويزيد من ذُيوعه وانتشاره بين الناس.
من ذلك ما يروى؛ أن تاجرا يمنيا جلب إلى المدينة المنورة تجارته من الخُمُـرِ السُّود، وعَرَضَها في السوق، وفي البيوتات، فلم تلقَ رواجا، فقد شاعت في المدينة وقتها موضة الخمُر الملونة، فحزن الشاعر اليمني، ونفِدت عُدَّتُه من الزاد، فلجأ إلى مسجد الرسول الأعظم، ليقضيَ فيه ليلته وقد أخذ منه الهمُّ كل مأخذ.
ويلتقي التاجر بالمسجد الشاعر المعروف: (الدارمي) الذي اعتزل الشعر، وآلى على نفسه أن يتفرغ لعبادة ربِّه، ويُنِيبَ إِلَيه بعد تَعَاطٍ لِلَّهْوِ والمجونِ، فيسأله الدارمي عن شأنه، فيخبره التاجر بما صار معه من كساد الخمر، والرجوع بخفي حنين من سَفْرَتِهِ هذه؛ وعندها تدرك الشاعر رأفة بالغريب، فيقول له:
سأنظم لك أبياتا ، أرجو أن يكون فيها حل لمشكلتك؛ فاذهب بها إلى (عزة الميلاء) وقل لها إنها من عندي، وأريدها أنْ تغنيها.
ولم يلبث التاجر أن سار يشقُّ أزقة المدينة والأمل يحدوه، حتى وصل إلى منزل المغنية (عزة الميلاء)، والتي كان مجلسها يضم عِلْيَةَ القوم وأبناء الطبقة الأرستقراطية في مجتمع المدينة آنذاك، فبلَّغها تحية الدارمي، وأعطاها أبياته، وكم كانت فرحتها بعودة الدارمي إلى سابق عهده؛ من قول للشعر، وحضور لمجالس الطرب؛ فغنت الأبيات المعروفة لتوها:
قل للمليحة في الخمار الأسودِ @@ ماذا صـنعـتِ بـزاهــد مـتعـبـدِ @
قـد كـان شـمَّر لـلصلاة ثـيـابه @@ حتى وقـفـتِ لـه ببـاب المسجـد@
رُدي عـليه صـلاته وصيـامه @@ لا تـقْـتُـلِـيـهِ بـحقِّ ديـنِ محـمــد @
وانتشرت الأبيات في المدينة، بعد أن غنتها (عزة الميلاء)، فشاع وذاع أن الشاعر المتنسك (الدارمي) فتنته صاحبة الخمار الأسود؛ فرجع سيرته الأولى.
وباكرت الغواني بكور الطير الأسواق يبحثن عن الخمر السود، ووجد اليمني عروضا مغرية لتجارته التي ربحت ربحا مضاعفا؛ وبحث الشعراء والمغنون عن الدارمي فوجدوا أنه ما زال على عبادته ونسكه.
ولعل الأمثلة عديدة على ترويج الغناء الشعر، ولكن أكثرها نصاعةً هو ذيوع قصائد نزار قباني في الأوساط الاجتماعية الموريتانية.
فمنذ أواخر السبعينات من القرن الماضي؛ غنى الثنائيُّ الفني (ديمي وسدوم) أجمل قصائد نزار، وشاعت أشرطة الغناء في عواصم الولايات، وفي القرى والأرياف، ولدى المسنين والصغار.
لقد غنيا له الكثير؛ وهل هناك من لم يحفظ من خلال أشرطتهما قصيدته (غرناطة) التي يبكي فيها الأندلس؛ الفردوس المفقود:
في مدخـل الحـمـراء كان لقاؤنا @@ ما أطيــب اللـقــيــا بــلا مـيـعـــاد@
عينـان سوداوان في حجريهمـا @@ تتـوالــد الأبــعـــــاد مـن أبـعــــاد @
هـل أنـت إسبانـيـة ؟ ساءلـتهـا @@ قـالــت: وفي غـرناطــةٍ مـيــلادي@
و قصيدته ( ماذا أقول له؟)
مـاذا أقـول له لـو جـاء يسألـني@@ إن كنـت أكـرهه أم كنـت أهـواه؟ @
مـاذا أقـول إذا راحــت أنامـلـه @@ تلملـم الليل عن شَعْـرِي وترعاه؟ @
غـدا إذا جـاء أعـطيـه رسائلـه @@ ونطعـم النـار أحـلـى ما كـتـبـنـاه @
و قصيته (ترصيع بالذهب على سيف دمشقي)
أتــــراها تحـبـني مـيـــســــون @@ أم توهـمـت؟ والنســـاء ظنــون @
يا ابنـة العـم والهـــوى أمـــوي@@ كيف أخفي الهوى؟ وكيف أبين؟@
هل مرايا دمشق تعرف وجهي@@ من جديد، أم غيـرتني السنيـن؟ @
والقائمة تطول...
لم يأت سدوم وديمي بدعا من الأمر في اختيار كلمات نزار قباني مادة لغنائهما؛ فقد سبقهما إلى ذلك فنانون عرب مرموقون؛ كمحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، ولحق بهما كُـثُـرٌ مثل: ميادة الحناوي، وكاظم الساهر...
فهل يا ترى كان الفنانان (ديمي وسدوم ) هما من أوصل شعر نزار قباني إلى الموريتانيين؟ خاصة وأن فرص المطالعة كانت محدودة وقتها، ودواوين الشاعر لم تكن متوفرة بحيث يقرؤها العامة؟
ثم هل كان من رددوا مع ديمي: (حبيبتي إن يسألوك عني@@ يوما فلا تفكري كثيرا)
كلهم قراء يعرفون أن يتهجوا ما تسطره الأقلام؟
لقد دخل شعر نزار الخيم البدوية، والأعرشة الريفية، وتغنى به الرعاة سائرين خلف قطعانهم، وردده العمال اليدويون وهم يواجهون حر الشمس وعَـنَـتَ السَّمُومِ، وشَدَا به الصبية وهم يلعـبون الطابة في الشوارع.
أعتقد أن الشاعر العظيم (نزار قباني) مدينٌ لهذين الفنانين الكبيرين بكل ذلك الذيوع والانتشار في هذه البلاد، والذي جعل منه أيقونة فنية تُحتذى؛ فقلما هم شاعر معاصر أن يكتب إلا واستدعى له صورا أو عبارات أو أساليب.