(قراءة في أحداث الجُمُعَات المُفَرِّقَات)..
1 ـ تمهيد
تَنْقُلُ كُتب التواريخ والسِّير الموثوقة، كَـ سير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي، وَ البداية والنهاية للحافظ بن كثير، وَ الطبقات لابن سعد، وغيرها، أحداثا وقعت في أيام الجمعة من شهر شوال عام 35 هجرية، ابريل 656 ميلادية، كان المسجد النبوي بالمدينة المنورة مسرحا لها، في ثنايا يوميات فتنة الخروج، أو "الثورة" على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه..
2 ـ سرد جزء من الأحداث..
ـ في يوم جمعة من شوال 35 هجرية: وبعد دخول "الثائرين" القادمين من بعض أقاليم الدولة الإسلامية المدينةَ المنورة، صلى عثمان رضي الله عنه بالناس الجمعة، وبعد الفراغ منها، صعد المنبر وخطب يعظ الخارجين عليه ويوبخهم، ويدعوهم للتوبة والرجوع للطاعة، ويستشهد على ذلك، فقام رجال على الطاعة ليشهدوا له، فأقعدهم الثوار، وأغلظوا لهم وله القول، وثاروا بأجمعهم وحصبوا الناس (رموهم بالحجارة) حتى أخرجوهم، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيا عليه، وحمل إلى داره، وبه شجة..
ـ في يوم جمعة من شوال 35 هجرية: خرج عثمان إلى المسجد، فقام إليه رجل، ثم جاء رجل آخر، وقام آخر وآخر، حتى كثروا، ثم تحاصبوا (تراموا بالحجارة)، ينقل الذهبي عن سلام عن الحسن: "حتى لم أر أديم السماء"، من الترامي بالحجارة، وكان جانب من المسجد غير مسقوف..
ـ في يوم جمعة من شوال 35 هجرية: وعثمان يخطب على المنبر معتمدا على العصا التي كان يعتمد عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، قام إليه من "الثوار" رجل يسمى الجَهْجـاه الغفاري، فنزع العصا من يده، وكسرها على ركبته، وسحبه عن المنبر..
تُوجت هذه الأحداث بحصار الثوار لأمير المؤمنين عثمان بن عفان في الدار، ومنعه من الصلاة في المسجد، ثم انتهت بقتله صبرا، وبوحشية، آخر ساعة من يوم جمعة في ذي الحجة، رضي الله عنه..
في أيام الحصار، برز عثمان للثوار، وقال لهم فيما قال: "والله لئن قتلتموني لا تتحابوا بعدي، ولا تُصَلُّوا جميعا أبدا، ولا تقاتلوا بعدي عدوا جميعا أبدا"، وكأنه كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق..
3 ـ قراءة للأحداث..
ـ أنهت هذه الأحداث عهد المسلمين بالمسجد الجامع، الذي يجمع القلوب قبل الأجساد، ويوحد الصفوف، ويفزعون إليه في جميع أمورهم، وأرَّخت لبداية عهدهم بمساجد "الجماعات" التي يُكتتب داخلها الأتباع، ويذاع الخطاب الفِرَقي، ويُتبادل من منابرها التلاعن، بين الجماعات، فكان كسر "الثائر" الجهجاه الغفاري لعصا الإمام، في الواقع كسرا لوحدة المسلمين واجتماعهم إلى الآن..
ـ الثورات من المساجد في أيام الجمعات، كانت شؤما على الأمة، وهي كذلك إلى اليوم، وصدق عثمان رضي الله، فلم يُصَلِّ المسلمون بعده مجتمعين أبدا، "إلا أن تجتمع الأجساد والأهواء مختلفة"..
ـ فضل المكان والزمان لا يسري بالضرورة إلى ما يحدث أو يقال فيهما، بل قد يسري منه إليها الشؤم، فرب فعل أو قول في مسجد يوم جمعة أشأم من "عطر منشم"..
ـ عثمان رضي الله عنه جنَّب خطبة الجمعة الحديث إلى الثوار، كأنه يجنب الصلاة ما يختلف حوله الناس، فلما انتهى من الصلاة صعد المنبر من جديد، وبدأ في الحديث في موضوع الثورة عليه، أما خطباء الجمعة اليوم في مساجد "الجماعات" فدأبهم استغلال الخطبة للحديث في أمور يختلف عليها المصلون تحت المنبر، إضفاء للقدسية على المواقف الفِرَقية، وإذا حُدِّثَ أحدهم بضرورة تجنب الحديث في الصلاة عن أمور يختلف الناس حولها، يزجر محدثه: هذه أمور المسلمين وهذا المسجد، ويرفع نصوص حق أريد بها باطل، ويستعرض حال المسلمين في المسجد النبوي الجامع أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأيام أبي بكر وعمر، وَ "لـشتان ما بين اليزيدين في الندى.."..
أ. ع. المصطفى