مهرجان المدن القديمة المعانق للمولد النبوي الشريف ، فكرة نبيلة ، ونبتة وطنية من طينة هذه الأرض، لاشرقية ولاغربية ،وقد تجسدت على أرض الواقع وهي من صنع عقل وطني ولها أخوات وتوحي بأشياء كثيرة لا تتعلق فقط بتثمين تراثنا القيمي ،بقدر ما تعيد لهذه المدن التاريخية رونقها المادي وزخرف الحياة فيها ، إنها مساهمة اقتصادية لفك العزلة الحغرافية عن هذه المدن،إنه حوار ناطق بين التاريخ والجغرافيا والواقع ، وقد ظلت هذه الفكرة من السهل الممتنع على مختلف أنظمةالحكم المتعاقبة على إدارة دفة السلطة في هذا البلاد، فليست المدن التاريخية من وجهة نظر هؤلاء إلا مدن أشباح لا تصلح إلا لمن كدر صفو الانظمة،إنها مكبة لنفابات سجناء الرأي ...وهذا يجعلنا نقول إن المشكاة التي خرجت منها هذه الفكرة مشكاة وطنية لا تبحث عن المزايا النفعية وتعرف كيف تدير بحنكة العلاقة بين ثالوث التاريخ والحغرافيا والواقع ،ومن هنا يكون لزاما على كل وطني غيور أن يسجل هذا المنجز في السجل الذهبي الخاص بإنجازات رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز ، فلاهو بالمسبوق لمثل هذا العمل الوطني النقي من كل الشوائب فعلينا أن نمنحه على الأقل براءة الاختراع...
وربما يكون من باب الحرص على هذا المشروع التاريخي أن تفكر العقول الرصينة المشرفة على إخراج هذا المنجز بشروط سلامته و بقائه و ديمومته، و أن يكون على رأس أجندة أولوياتها موضوعية التصنيف ،فعلى أي أساس نصف المدن التاريخية ؟
هناك من يرى أن طبيعة الآثار هي العامل الحاسم في التصنيف ، فبيوت الحجر الصامدة أمام طغيان الصحراء وماتحتويه كهوفها من كنوز تراثية بالإضافة للعامل التاريخي ترجيحات تنوء بعصبة مرجحات الكفة الأخرى، هذه وجهة نظر وجيهة وهي المهيمنة حتى اليوم على مشهد التصنيف ، لكن بالمقابل هناك اطروحات أخرى لاتخلو من موضوعية و إنصاف فالتاريخ القيمي للمجتمعات ينظر إليه من مرايا متعددة، و ليس في هذه البلاد منكب إلا و فيه تاريخ وثقافة وأساطير مؤسسة. ،هناك ملاحم اتهيدين عند الفنانين وتحكي قصة تاريخ لم يشفر بعد ولم يعتمد كمصدر للتاريخ ، هناك المديح النبوي عند فئة لحراطين وفي مواويله و "كرزه" أشياء اخرى جميلة تعانق فكلورا غنيا بالرمز والامتاع يبقى هو الآخر مجالا خصبا لم يجد حتى الآن نصيبه من التثمين ..هناك اشكال من الصناعات الثقافية والحربية والاقتصادية امتهنتها فئة "لمعلمين " وعاش عليها الجميع وفيها الكثير من الإبداع وهو بحاجة هو الآخر للتثمين...
وفي زاوية أخرى و على لسان العلامة المختار ولدبونا الجكني نجد رواية أعطت لهذه البلاد وجها صبوحا ورسمت صورة نمطية بهية عن الفعل الحضاري لساكنتها:
فنحن ركب من الأشراف منتظم أجل ذا العصر قدرا دون ادنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة...بها نبين دين الله تبيانا
هناك أدوات ابتكرها العقل الشنقيطي في مواجهة طغيان الصحراء منها ما ذكرنا آنفا، ومنها ظهور العيس وبيت الشعر واكواخ الطين واكواخ النباتات الأخرى...وقد احتضنت هذه المقرات المتنقلة ثقافة أطلق عليها علماء الاجتماع، البادية العالمة ،وليس من الإنصاف إقصاء مدنها أو تقيمها على أساس غير موضوعي...كما أن هناك مدنا انقرضت وأصبحت أثرا بعد عين لكنها كانت لها ما لها من شاو حضاري ،فإذا كان عامل الآثار والحضارة هو الحاسم فعلينا أن نصنف تنيكي على رأس مدن التاريخ وأن نعيد ترميم بناياتها، وكذلك كومبي صالح ومكسم بن عامر وازوكي،واذا كان عامل النصوص التاريخية وقلاع الحركة الثقافية وعامل مد جسور هذه الثقافة الشنقيطية إلى الجوار وحركة مدنيتها ومحاولات التدول فيها وأرشفة تاريخها وتوثيقه فعلينا كذلك ان نولي وجهنا شطر الجنوب ولو لمرة واحدة في العمر كالأذان ،بدء بالبصمات الحضارية للإخوة الزنوج في موريتانيا ففي هؤلاء رجال لاتلهيهم تجارة ولا لهو عن المقاومة و الجهاد وفيهم كذلك مدن أثرية ومحاولات للتدول و إقامة الدولة الاسلامية وكانوا ظهيرا قويا عبر التاريخ لأهل هذا المنكب البرزخي...ومن هذا المنظور لن تسلم أكيدي ولا أوكار ولا صحراء اينشيري ولاتيرس من التمثيل المشع للمدن التاريخية...
علينا ان نوسع دائرة تفكيرنا عندما يتعلق الأمر بالشأن العام وأن ندخل مفهوم النسبية في معايير التصنيف وان نبتعد عن الأحكام الجاهزة...فصيغ العيش المشترك تفرض إكراهاتها...
هذه وجهة نظري الخاصة بشروط سلامة هذا المشروع التاريخي الكبير الذي أسسه رئيس الجمهورية...