""دليل الاستبداد والمستبدين» كتاب لمؤلفيه الأمريكيين أستاذي العلوم السياسية بروس بينودومسغيتا وإلستير سميث، يرسم لوحة فريدة لتراجيديا الشعوب العربية تحت ظلال أنظمة مركبة من مختلف ألوان الفساد السياسي والاقتصادي، يتنقل الكتاب بقرائه بين مراحل عشر تكاد تكون شموسا حتمية الشروق الواحدة تلو الأخرى عند كل فجر، قبل أن يحل أوان اليوم الموعود، فتطلع من المغرب ليغلق باب التوبة لهذا النظام أو ذاك، إما بانقلاب عسكري أو بثورة شعبية أو بتمرد اجتماعي، فتخرج الطفيليات التي تغذت طويلا على دماء الشعوب، من خلال استبداد الأنظمة بسيمفونيتها الشهيرة.. « مات الجنرال عاش الجنرال!».
وليست موريتانيا المنتبذ القصي للعرب، ونقطة الوصل في المغرب الكبير بين المحيط العربي والإفريقي سوى تأكيد لصحة محتويات ما جاء في دليل الاستبداد والمستبدين. فبعد القواعد العامة للسياسة العقلانية التي قل ما يفقهها حكام القصر الرمادي في نواكشوط تأتي فصول:
ـ الوصول إلى الحكم: وهي المرحلة التي دشنها النظام الحالي بأول انقلاب عسكري فريد من نوعه، من حيث كونه أجهض أول تجربة ديمقراطية في موريتانيا والإقليم عن طريق الانقلاب على أول رئيس منتخب ديمقراطيا سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.
ـ البقاء في السلطة: وهو الفصل الثاني الذي رسمته في موريتانيا سياسات النظام التي ارتكزت على القمع المفرط لكل دعاة الحق المدني، كما حصل ومازال يحصل مع الطلاب ومع الحقوقيين، ومع حل مجلس الشيوخ المعطل لتمرير قوانين الحاكم الفرد وسجن البرلمانيين المنتخبين شعبيا، وتزوير الانتخابات والتضييق على المعارضين في أرزاقهم، وصولا إلى محاولات خرق الدستور لأجل مأمورية ثالثة ترفضها معادلات الداخل وتعترض عليها أصوات الخارج والشركاء الدوليين.
ـ الحصول على الأموال وإنفاقها: ولا أدل على ذلك من تصريحات الرئيس عزيز منذ وصوله إلى الحكم باستحداث طبقة رجال أعمال جدد، ظهروا ما بين غمضة عين وانتباهتها، لا أحد يعرف مصادر ثرواتهم، ولا من أين حصلوا عليها أو كيف؟ شركات كانت تعمل كمحرك للاقتصاد منذ استقلال الدولة، أفلست بسبب الفساد ومنافسة شركات العائلة والمسؤولين والوزراء والحاشية، كما حصل مع سونيمكس وأنير وأطنان الذهب التي كانت تنقل في طائرات خاصة إلى القصر الرئاسي، كما يوشك أن يحصل مع عملاق المناجم وعمود الاقتصاد الموريتاني شركة أسنيم.
أما بقية الفصول المتتالية «الفساد والتمكين»، «المعونات الخارجية» و»الشعوب والحالات الثورية» فتختصرها كلها حقائق وأرقام صادرة عن أعلى الجهات الدولية المختصة، كون نسبة الدين العام في موريتانيا قاربت حد 100% وكون البنية التحتية هي الأسوأ في العالم في موريتانيا، كما جاء في تقارير التنافسية الدولية والبنك الدولي والأمم المتحدة، ومن تدجين جيل كامل من الشباب وإفقار والقضاء على الطبقة الوسطى، كي لا يبقى متنفس يسمح للناس بالتفكير في الخروج من عمق هذا النفق المظلم. أما الفصل ما قبل الأخير وهو بعنوان «الحرب والسلام والنظام العالمي» فيجد لنفسه مكانا فسيحا في محاولات النظام ومنظومة الاستبداد الحاكمة تسويق نفسها للغرب المخوف من غول الإرهاب والمكتوي حديثا بنيرانه في باريس وبرلين ولندن، كدرع واق هو الوحيد القادر على حمايتهم من جحيم الإرهاب، وصد لهيب نيرانه عنهم، قبل أن تصل إلى حدودهم مقبلة من مالي وتشاد والنيجر.
من قلب هذه التراجيديا المأساوية التي يقبع تحت نيرها شعب طيب وأصيل، تخرج معضلة أخرى بدأت تلفت أنظار العالم تنذر بمعركة مستقبلية للسيطرة على منابع ثروات الغاز المكتشفة حديثا في الساحل البحري الموريتاني، ثروات تقدر كتلك التي لدى قطر وروسيا. هذه المعركة التي توشك أن تندلع في هذا المنتبذ القصي بين الدول العظمى والرعاة الدوليين لدول هذا الركن من العالم، ترسم ملامح التحالفات السياسية الدولية، التي ستكون مؤثرة على نتائج رهانات الموريتانيين على بناء دولتهم، والسعي إلى تناوب سلمي على السلطة في أفق 2019، ولكنها في الوقت ذاته أيضا تفتح شهية منظومة الاستبداد الحاكم لعدم مغادرة السلطة، أيا كانت الوسائل المستخدمة في سبيل ذلك، شرعية كانت أم غير شرعية، وتطرح في أذهانهم السؤال التالي.. ما العمل؟
معضلة تلفت أنظار العالم تنذر بمعركة مستقبلية للسيطرة على منابع ثروات الغاز المكتشفة حديثا في الساحل البحري الموريتاني
ما العمل؟ هو العنوان العاشر والأخير لآخر فصول كتاب «دليل الاستبداد والمستبدين» وهو السؤال الذي يؤرق الرئيس الحالي ليل نهار. ما العمل؟ ترك السلطة أو البقاء فيها؟ خياران أحلاهما مر، خياران لكل منهما ثمن كبير وفادح يتراوح بين المغامرة بمحاولة البقاء التي قد تنتج ربيعا عربيا يعصف بكل المكتسبات المالية والسلطوية للنظام، أو المغادرة وترك ثروة الغاز والخروج من حيز الحماية التي توفرها السلطة، فتنتج عن ذلك ملاحقات قانونية ومتابعات جنائية وارتدادات عداوات، لا حصر لها، صنعها هذا النظام ورئيسه محليا وإقليميا ودوليا. وفي محاولة للإجابة على سؤال الفصل الأخير لن يجد الباحث والمواطن البسيط سوى طريق آمنة وحيدة، وهي تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة وترك العبث بمصير ورهانات وآمال شعب بكامله يتطلع إلى التغيير، وترشيح الأصلح وهو الأمر الذي قد يلعب فيه الجنرال غزواني وزير الدفاع الحالي والقائد السابق لأركان الجيش دورا محوريا، باعتباره الوحيد في منظومة الاستبداد الذي لم تتلطخ يداه بأدرانها، ولم يدخل في صلب تلك العداوات التي أبدع النظام الحالي في صنعها وباعتباره عسكريا يشكل نوعا من الإجماع بين الموالات والمعارضة ومزيجا من العسكري البحت والمدني المتعلم. ولكن حتى هذه الفرضية الأخيرة القاضية بسلوك طريق آمن وتنظيم مسار انتخابي نزيه وترشيح الأصلح لا تزال تتعرض لعواصف الدولة العميقة، ومحاولات منظومة الاستبداد التمسك بالسلطة.
«الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كان، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة. تواسي فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين الأمة فتقول كما جاء في كتاب «طبائع الاستبداد»: «يا بؤساء: هذا قضاء من السماء لا مرد له، فالواجب تلقيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم والتدبير فإن الله غيور، وليكن وردكم: اللهم انصر سلطاننا، وآمنّا في أوطاننا، واكشف عنّا البلاء، أنت حسبنا ونعم الوكيل» لك الله يا وطني!
صحافي وكاتب مقيم في باريس