ما إن أعلن عن القرار الأمريكي الجديد القاضي بحذف موريتانيا من قائمة الدول المستفيدة من الامتيازات التجارية التفضيلية مع الولايات المتحدة الأمريكية والذي سقط كالصاعقة على رأس السلطة القائمة حتى انطلقت نيران التصريحات المضادة والحرب الكلامية بشكل عشوائي في كل الاتجاهات ومن جميع المستويات دون تقدير مسبق لما قد تلحقه من أضرار ضد بلادنا في مرحلة سياسية حرجة من عمر النظام معلنة كما هو الحال في كل مرة أن وراء القرار قس أسود أو سناتور أسود أو رئيس أسود أو حقد "صهيوني" أسود ولم يعرفوا أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية لا يصنعها الأشخاص كما هو الشأن عندنا بل تصنعها المؤسسات بغض النظر عن الولاءات السياسية للقطبين السياسيين المتصارعين تقليديا في أمريكا فبالأمس كانت مشكلتنا مع رئيس ديمقراطي أسود منحاز تلقائيا لقضايا السود وقد أعانه على ذلك سفير متزنّج مثير للجدل أعلن منذ أول يوم أن مهمته في موريتانيا تتلخص في مساعدة موريتانيا على التخلص من الإرث الإنساني للعبودية أما اليوم فلدينا رئيس جمهوري أبيض وسفير أبيض جعل على قمة أولوياته تطوير العلاقات بين موريتانيا والولايات المتحدة وهو ما فهم خطأ على أنه تغيير في السياسة الخارجية الأمريكية تجاهنا وتفضيل للمصالح الاقتصادية لأمريكا على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان وقد نسي الجميع أن الذي يحدد السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة الاقتصادية الأولى في العالم ليس فقط مصالحها الاقتصادية رغم أنها تشكل حجر الزاوية في هذا المجال بل توجد أسباب أخرى وعوامل أخرى مهمة في تحديد تلك السياسة فأمريكا تنظر إلى نفسها على أنها الراعي الأول للديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم ولتحصين النظام الليبرالي في العالم وضمان سيرورته لا بد من وجود منظومة حقوقية موازية تعمل بنفس الكفاءة داخل المتروبولية وخارجها يعد أي إضرار بها إضرارا بالمصالح الاقتصادية الأمريكية ذاتها وبالتالي بموقع الولايات المتحدة الريادي في العالم هذه المنظومة الحقوقية الكونية لها علاقة بالكوكب ولا علاقة لها بالجغرافيا السياسية ولا بأحجام الدول وخصوصياتها الثقافية أو الدينية كما هو راسخ في العقيدة السياسية لدينا القائمة على نظرية المؤامرة فهذه السياسة تنطبق على دول عظمى مثل الصين وروسيا كما تنطبق على دول صغيرة مثل موريتانيا وأفغانستان وكوبا. فلا بد أن ينظر العالم إلى أمريكا ليس بصفتها مصدرة للسلع فحسب بل بصفتها أيضا بلد الحريات والقيم المستوحاة من مبادئ الثورة الأمريكية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وبغض النظر عن اهتزاز تلك الصورة المثالية للولايات المتحدة الأمريكية في عيون الكثيرين نتيجة لعوامل داخلية وخارجية مثل الحرب من أجل الحقوق المدنية للسود الأمريكيين والحروب الأمريكية الخارجية في فيتنام والعراق وأفغانستان وبنما...التي وضعت شرعية الولايات المتحدة باعتبارها الراعي الأول لحقوق الإنسان في العالم على المحك إلا أن النظام السياسي الرسمي في الولايات المتحدة لا يزال ينظر إلى نفسه باعتباره الوريث الشرعي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويعتبر أمريكا مدرسة للتعايش السلمي بين الشعوب والثقافات وبالتالي المسؤول الأول عن الدفاع عن العدالة وحقوق الإنسان في العالم.
هذا الأمر يجعل التسرع في اتخاذ المواقف الحدية في هذه المرحلة الحرجة لنظامنا السياسي خطأ فادحا قد تنجر عنه عواقب وخيمة على النظام نفسه قبل غيره. ولكنني في المقابل لا اعتقد أن الأمر ينحصر في تحديد طبيعة الخطوة أو الموقف المناسب الذي يجب أن نواجه به أمريكا في هذه المرحلة لأن ذلك يعني ضمنيا حصر الأزمة في جوانبها الخارجية والتي هي بطبيعتها ظرفية وعابرة وصرف النظر عن الأبعاد الداخلية للمشكلة والتي نعتقد أنها أكثر خطورة على الداخل الوطني وعلى علاقات البلد الخارجية مستقبلا وهو المقدم على طفرة نفطية من شأنها أن تعزز مكانته اقتصاديا وسياسيا في الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة نفسها.
ولا شك أن الاحتقان الاجتماعي والسياسي الداخلي والظرفية السياسية التي يمر بها البلد حاليا تحتمان عليه البحث عن مخارج صحيحة للأزمة في بعديها الداخلي والخارجي معا ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بخلق أجواء من الانفتاح ونزع فتيل التوتر الاجتماعي والسياسي وتبدو الساحة السياسية الآن مهيأة بالفعل لمثل هذه الإجراءات والتوجهات ولا أتصور شخصيا أن الأغلبية ستدخل في انتخابات 2019 التي باتت على الأبواب بمثل هذه الوضعية من التوتر الاجتماعي الحاد والانقسام السياسي غير المسبوق لأن ذلك سيكون بمثابة انتحار سياسي حقيقي ونأمل ألا يكون القرار الأمريكي الأخير سببا في تأخير الإصلاحات التي تفرض نفسها بإلحاح في الوقت الحالي.
واعتقد شخصيا أن هناك حاجة ماسة إلى تعديل الأوتار اليوم قبل الغد وكلما كان التغيير أسرع كان أفضل وكان أقدر على تدارك الوضع ولن يكون ذلك ممكنا إلا بتوفر الشروط الآتية:
* توفر الإرادة السياسية لاستكمال الخطوات المهمة التي تم الشروع فيها منذ المأمورية الأولى للرئيس محمد ولد عبد العزيز والتي هي امتداد وتطوير لما حصل في عهد الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله لمعالجة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والنفسية للعبودية والتي هي أخطر بكثير من العبودية ذاتها بالنظر إلى أن المتضررين منها بمئات الآلاف إن لم نقل بالملايين في مقابل بعض الحالات الفردية من العبودية المحدودة جدا في الزمان والمكان والتي قد نعثر عليها هنا أوهناك والتي لا يتأثر بها إلا الآحاد وقد اتخذت لها بالفعل التدابير القانونية اللازمة على الأقل على مستوى الإجراءات.
* تطبيق بنود خارطة الطريق وفي مقدمتها مشروع (ZEP) "المناطق ذات الأولوية التربوية" مع طلب المساعدة والدعم في هذا الخصوص من الولايات المتحدة الأمريكية وكافة الدول الغربية لتوفير الأموال الضرورية بعد ضياع الميزانية الكبيرة المخصصة له على ما يبدو وستكون هذه أفضل وسيلة لإحراج الولايات المتحدة والغرب الذي كثيرا ما عرض المساعدة في هذا المجال مع رفض الطرف الحكومي وهي أمور لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء انعدام الإرادة السياسية الحقيقية لمعالجة القضية.
* تخصيص ميزانية كبيرة لا تقل عن %30 من الميزانية العامة للتعليم والشروع الفوري في تنفيذ مخطط متكامل لإصلاح التعليم الذي يضمن حظوظا متساوية للجميع الأمر الذي سيؤدي من تلقاء ذاته وبمرور الزمن إلى القضاء على الهوة التي تفصل بين مكونات المجتمع في الثروة والمعرفة والسلطة هوة تؤدي الاختلالات الحالية في منظومتنا التعليمية إلى تجذيرها.
* الشروع في تطبيق سياسة التمييز الإيجابي في ميادين محددة تؤدي إلى معادلة الاختلالات الجوهرية في توزيع الثروة بين المواطنين بحسب المعايير الدولية المتعارف عليها وهي سياسة اتبعتها دول كبرى مثل فرنسا وكندا ليس لها إرث إنساني ثقيل ناتج عن العبودية مثل بلادنا.
* القطع مع السياسات الخرقاء التي اتبعتها الحكومة في عهد الوزير الأول السابق والقائمة على تصفية أطر الحراطين وكوادرهم وعزلهم من مناصبهم فمن شأن هذه الخطوة أن تخفف الاحتقان وتجلب المزيد من الهدوء والطمأنينة للساحة السياسية الوطنية فلا تستطيع أن تمنع هذه النخبة أو غيرها من الشخصيات ذات التفكير الحر والمنظمات الأهلية من أن تكون ظهيرا للولايات المتحدة وغيرها إذا لم تقم بتوفير الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية في الداخل.
وفي اعتقادنا أن القيام بتلك الخطوات هو أفضل طريقة للرد على التدخل الأمريكي في شؤوننا الداخلية وهو الذي يجعلنا بالفعل في خندق واحد ويجنب بلادنا المزيد من المخاطر الداخلية والخارجية لكن هذا الأمر في الحقيقة يحتاج إلى إرادة سياسية قوية وشجاعة مثل شجاعة الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله وقوة وتصميم وجرأة مثل تلك التي يمتلكها الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز.
ولكن المشكلة كل المشكلة تكمن في عدم القيام بهذه الإجراءات في موعدها أو في تباطؤ وتيرة الإصلاحات فالمصائب لا تأتي فرادى فإذا لم تحدث إجراءات استعجالية في هذا الاتجاه فقد تتسع دائرة الاحتجاج فتشمل دولا أوروبية عديدة ونخسر ملف العبودية داخليا كما خسرناه خارجيا غير أن خسارته الداخلية مع ما تحمله من خطر على السلم الاجتماعي والانسجام الداخلي لها مفعول سلبي في تحول السلطة وهو ما لا يدركه الكثيرون.
إن استمرار الأزمة في شقيها الداخلي والخارجي سيؤدي إلى نزع غطاء الشرعية عن النظام وعندها سيصبح في مرمى النيران الصديقة وغير الصديقة وتصبح الأرضية ممهدة كما هو الشأن في كل مرة لحدوث تغيير عنيف تقوده أطراف داخلية وخارجية الأمر الذي ستكون له نتائج كارثية لا على الأغلبية الحاكمة فقط وإنما على نظامنا السياسي برمته ويحرمه بالتالي من حصول التراكم المطلوب لإنضاج تجربتنا الديمقراطية الفتية.