لم يكن الشوط الثالث في بلدية عرفات مجرد انتخابات بلدية عادية، أو مواجهة بين حزبين سياسيين، حتى ولو كان أحدهما حاكما والآخر معارضا، بل كان امتحانا عسيرا للحكومة التي استفزت سكان عرفات بصوتها وجلبت عليهم بخيلها ورجلها وكل مراكبها الفارهة، واستعرض شخوصها أنفسهم على مسرح عملية انتخابية مموهة ومغشوشة، فسقط القناع عن القناع، بعد أن توهموا أن النصر في قبضة أيديهم، وبات السباق محموما بين فرقاء الحكومة، كل يسعى لتسجيل بصمته شكليا على النصر الموعود والموهوم، حتى تكسرت النبال على النبال، فلما انقشع غبار المعركة جاءت الهزية مدوية، فانقلبوا على أعقابهم، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون.
لكن العارفين بأبسط قواعد اللعبة السياسية في البلد كانوا واثقين من أن التعزيزت الحكومية للعملية السياسية في عرفات، ستجلب الخسارة لا محالة.. فأي حكومة هذه التي جاءت للنجدة وسحق الخصم، في شوط استثنائي سيق إليه الناخبون سوقا، فضاعفت فارق الخسارة عدة مرات، لتصبح أمثولة يتندر بها المواطنون ويضحك عليها المنكتون.. حكومة سقطت في مواجهة رجل، وفي أفضل التصنيفات هزمت أمام حزب سياسي، إنه سوء المنقلب والخسران المبين.
نعم كان متوقعا أن تفشل الحكومة وتفشل ثم بعد ذلك تفشل ، فحكومة مشغولة بمواجهة بعضها بعضا ، وبحرب ضروس على مولاتها، وتصفية حسابات مع غير معجبيها، ونزق وطيش في التعاطي مع معارضيها، وإهمال وإذلال لمواطنيها، كفيلة بأن تجلب الهزيمة حيثما حلت، إن لم تجلب ما هو أدهى وأمر، فقد كان بالإمكان أن يبقى الأمر في عرفات مجرد منازلة حزب لحزب وحينها سيكون الأمر مجرد خسارة مجلس بلدي، لم تطأه من قبل أقادم الحزب الحاكم ولم يجس خلال دياره، فيبقى الوضع كما كان، لكن تجييش الحكومة وأعوانها واستعراضاتهم البهلوانية غير الاحترافية، وتمظهراتهم، حولتها إلى معركة نظام بأسره، أفضت في النهاية إلى انتكاسة عظيمة، بل لو افترضنا جدلا أن الحزب الحاكم فاز في عرفات بهذه الطريقة، فسيظل الأمر خسارة سياسية للدولة والحكومة، وسيكون ذلك مجرد انتصار بطعم الهزيمة، إذ أن الثمن السياسي الذي دفع مقابل الإطاحة بعمدة عرفات، كان فادحا وغاليا، وتحول إلى اختبار سقطت فيه الحكومة وهي على أعتاب تقديم استقالتها الإجبارية.
انتهت معركة عرفات وكانت سوء خاتمة سياسية للحكومة في انتهاء فترة انتدابها، وبات لزاما أن يُدفع الثمن، كما دفع في انتخابات أخرى، بل في الأشواط السابقة من الانتخابات الحالية، وعلى قدر الخسارة والجهد الضائع، يكون الحساب والمحاسبة، لذلك تتولى الأسئلة عن الحكومة القادمة.
وهنا يجب أن نستحضر مقولة مسلمة مفادها أنه ليس من الحكمة البتة أن تسلك نفس الطريق وتستخدم نفس الأدوات ثم تتوقع نتيجة مختلفة، لذلك لا يمكن للنظام إن أراد الخروج من عنق الزجاجة الذي حشرته فيه هذه الحكومة أن يخرج منه بذات الحكومة، وإلا لكان ينشد استمرار الصراعات والنزاعات الداخلية التي عصفت به في عرفات وشك أن تعصف به في مواقف ومواطن أخرى، بل سيكون ذلك احتفاظا بحكومة حطمت هيبة الدولة وأتلها للجبين.
على الأقل ونحن على بعد أشهر معدودات من انتخابات رئاسية مفصلية في تاريخ موريتانيا الحديث، فإن البلد يحتاج إلى حكومة تهدئة قادرة على فك عقد التأزيم والتعطيل التي نفثت فيها "حكومة عرفات"، وأدخلت بموجبها النظام والبلد في معركة سياسية سيزفية كان في غنى عنها، وجعلته الخاسر الأول والأخير فيها.
يحتاج البلد إلى حكومة، إن لم تكن محل إجماع، فلتكن محل انتظار وتربص وتجريب، تستحق على المواطن وعلى الطيف السياسي مهلة التريث قبل الحكم عليها، لا حكومة وصلَ حكم الناس عليها حد استدبارها وصفعها واحتقارها في بلدية هامشية ومتواضعة.. نعم يحتاج البلد إلى حكومة تفتح صفحة جديدة مع كل القوى السياسية معارضة وموالاة وتعبر بالبلد قنطرة انتخابات 2019 بأقل الخسائر.. وتحتاج الدولة إلى حكومة تعيد لها هيبتها ومكانتها كسلطة فوقية بعد أن دنست هذه الحكومة سمعتها ووقارها وأنزلت مكانتها إلى درك الهزيمة السياسية المحلية، ومرغت ناصيتها في شوارع وأزقة عرفات.. ويحتاج النظام إلى حكومة تسعى للم شمل أنصاره واحتضانهم، بعد أن فرقتهم هذه الحكومة شذر مذر، وجعلتهم أحاديث ومزقتهم كل ممزق.
أخيرا يجب أن يكون درس عرفات هو الدرس الأخير لهذه الحكومة، وإلا سيكون البلد في مواجهة دروس أخرى ـ لا قدر الله ـ يستعصي عليه وعلى النظام تحمل تبعاتها.