نظم بيت شعر نواكشوط مساء أمس (الخميس) جلسة مقاربات نقدية حول جماليات “الشعر الحساني”، وذلك بحضور كوكبة من رموز الإبداع والإعلام، وجمهور غفير من محبي الشعر والثقافة. وقدم عرضا ضافيا في هذه الجلسة الأستاذ الناقد/ دده محمد الأمين السالك، وهو فضلا عن كونه أحد كبار الإعلاميين الموريتانيين، يعد من أبرز المهتمين بالدراسة النقدية حول الشعر الحساني، وله عدة مؤلفات وبحوث صادرة في هذا المجال. وأدار الجلسة الشاعر/ محمد الأمين أحمد ديَّ، الذي قدم تعريفا للشعر الحساني، أكد من خلاله أنه أدب احتل “مكانة سامقة في قلوب الموريتانيين فهو ذاكرتهم الحية لتاريخهم، وخزانهم الآمن لموروثهم، وهو سجل الوقائع والملاحم البطولية، وهو كهف المحبين وملاذ العاشقين، وهو الجسر المورود لنشر القيم الفاضلة والأخلاق النبيلة”، وفق تعبيره، موضحا “أن الشعر الحساني يتميز بالعديد من الخصوصيات الفنية، كالقدرة على الإيجاز واختزال المعاني”. وقال ولد أحمد دّي إن بيت الشعر – نواكشوط يعطي القوس باريها في مجال الشعر الحساني عندما يقدم للجمهور أديبا ناقدا من وزن الأستاذ دده محمد الأمين السالك، الذي يجيد الغوص في أسرار هذا الشعر وجمالياته، التي ما تزال بمنأى عن أقلام المستكنهين، وفق رؤيته. أما الأستاذ/ دده محمد الأمين السالك؛ فقد بدأ محاضرته بكلمة أعرب من خلالها عن سروره البالغ، وشعوره العميق بالامتنان لهذا الحضور الرائع، والذي في مقدمته شخصيات بارزة كالرئيس السابق لهيئة الإذاعة والتلفزيون الموريتاني محمد يحي ولد حي، ومدير الدروس بالمدرسة العليا للتعليم دكتور أبوه بلبلاه، وشعراء ومثقفون وأكاديميون كبار. ولد محمد الأمين السالك أكد في بداية حديثه عن جماليات الشعر الحساني، أن “الكلام عن الشعر الحساني لا يخلو من مجازفة، مع أنه موضوع بكر، وثري بالإغراءات”. وقال إن “عنصر التحدي في تناول الشعر الحساني يكمن في كونه أُهمل عبر مسيرته المليئة بالجمال إهمالا غريبا وغير مصنف من طرف النقاد والباحثين مما عرضه لاحتمال الضياع لو لم يكن هو قادرا على الصمود بذاته، بل وفرض وجوده بوصفه ضربا أدبيا رفيعا عبر عن الوجدان الوطني والذاتية المحضة لمجتمع عصامي، خلق ثقافته على صحراء مترامية الأطراف متنقلا وراء الكلأ”. وأكد أن الشعر الحساني “سيطر على القلوب لملامسته حنايا القلب وقربه من النفس، فكان ناطقا باسم الوجدان الوطني بدون منازع ومعبرا عن إحساسه بحق”. وقال “كنت كأي مهتم أو هاو قد بدأت الكتابة في النقد الأدبي الفصيح.. ونشرت عدة مقالات كان آخرها دراسة بعنوان : اتجاهات وملامح في القصيدة الموريتانية الحديثة .. تناولت فيها مرحلة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وتعرضت لشعراء من هذه الفترة اعتبرتهم نماذج لأجيالهم”. ورأى أن القصيدة الموريتانية الحديثة تضررت كثيرا من طغيان القصيدة الظرفية “قصيدة المناسبة” حيث تراجعت القصيدة الفنية والرؤيوية تراجعا مخيفا يدعو للأسى، وتداخلت الأصوات واختلط حابلها بنابلها وأصبحت الأصوات الشعرية الحقة حائرة أمام طوفان هائل من “التفعلة التجارية”، وفق تعبيره. وأضاف “لكن هنالك تساؤلات ظلت تطرح نفسها علي بإلحاح وتبحث عن إجابة : لماذا لا يهتم الباحثون والنقاد بالشعر الحساني، ويدرسونه كما اهتموا بالشعر الفصيح .. أليس في الشعر الحساني ما يستحق الدراسة؟ أليس مادة أدبية مكتملة الشروط والمواصفات؟ أليس جزءا مهما من المكونة الثقافية الوطنية؟”. ورأى أن العزوف الغريب عن دراسة الشعر الحساني يعود لأحد أمرين : إما اعتبار الشعر الحساني جزءا من ترف المجلس لا يستحق الدراسة والبحث، وإما العجز عن فهم أكناه الشعر الحساني ومكامن الجمال فيه وقدرته التعبيرية على مخاطبة الحس الوطني المسكون بحب الجمال”. واعتبر أن “كلتا الحالتين غريبة: فلو كان الشعر الحساني جزءا من ترف المجلس لما استطاع الصمود أحقابا وتناقلته الأجيال من جيل إلى جيل، وفرض نفسه رقما صعبا في الثقافة الموريتانية عبر عصورها المختلفة . أما عدم فهم أكناهه وأبعاده الجمالية لا يمكن تصوره لأن المجتمع الذي أبدعه أصلا قادر يقينا على فهمه”. وقال “أمام هذه الحالة الشاذة من الإهمال التي يتعرض لها الشعر الحساني والذي هو خصوصية محضة للمجتمع الموريتاني، قررت أن أتجه إلى دراسة هذا الشعر؛ لأني رأيت فيه ضربا رفيعا من أروع ضروب الشعر جديرا بالدراسة”. ولد محمد الأمين السالك، صاحب كتاب “سحر البيان في الشعر الموريتاني الفصيح والحساني.. دراسات نقدية”، أوضح أن الشعر الحساني هو إثراء للقصيدة الفصيحة، وللأدب بصفة عامة. وقدم قراءات وافية في فنون الشعر الحساني مشفوعة بأمثلة، توضح تقنيات تعامل هذا الشعر مع الزمان وفصوله/ المكان/ وتنوعه، وطرق استغلال الشاعر الحساني لتيمات الزمان والمكان ومن خلالهما التعبير عن همومه ومشاعره. وفي مجال “مميزات الشعر الحساني”، أكد ولد محمد الأمين السالك أن “الشعر الحساني فعل حضاري متميز يعبر عن نفسية شفافة صاغت إحساسها مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية: الدين.. سلامة الفطرة.. رهافة الحس.. الحب.. الصحراء.. البحر.. الليل.. القمر.. إلخ” مضيفا “أنه نتاج مجتمع وجد نفسه محصورا في حيز جغرافي بدوي صرف.. فأنشأ حضارته متنقلا في أرجاء صحراء لا متناهية، خالية من عوامل الاستقرار.. إنها إرادة الفعل قهرت العوائق.. وأسست لبناء ثقافة متكاملة: دينا واقتصادا وأخلاقا وأدبا”. وقال ولد محمد الأمين السالك “لقد أثرى الشعر الحساني حياة الموريتانيين الأدبية والأخلاقية، وأطر رؤاهم ومناهج حياتهم وجذر نظرتهم للجمال” معتبرا أن “هذه المميزات الرائعة وسيلة إغراء لا تُقاوم لدراسة هذا الأدب وإبراز جمالياته” التي رأى أنها تتجلى في “القدرة الهائلة على تجسيد اللحظة المشحونة والتصوير المكثف للقلق الوجداني بتلقائية لا تؤثر على عمق التعبير وقوة الدلالة”.