1 – وضعية غير مريحة
التميع السائد وهبوط معنويات المجتمع وذهول وشرود الاذهان وصلت بنا الى مرحلة، صار الكلام فيها على أننا سندخل حربا وشيكة، بل اننا دخلناها فعلا وان قواتنا على أهبة الاستعداد في ساحة المعركة، صار هذا الكلام لا يثير أحدا ولا احد يتعجب من كوننا نُقَدم على هذه الخطوة دون علم السكان.
الضغوط والدعوات للحرب مستمرة فعلا منذ سنوات. هذا كان جليا، كما كان جليا أيضا غموض المسؤولين الكبار عن الدولة. يقال ان دور قواتنا المسلحة في تدخلها في منطقة الساحل هو تأمين قوات "صديقة"، ريثما تنسحب هذه الأخيرة، ربما، وتورث لنا نجاحاتها النسبية وإخفاقاتها المفزعة.
في هذا السيناريو سيبقى رجال الصحراء يتصرفون وحدهم، في محيطهم الطبيعي، مثل السمك في الماء، أو على الأصح مثل الظبي او الجمل بين الكثبان المحرقة اللامتناهية والسهول الحجرية والرملية التي لانهاية لها، هي الأخرى، والتي تَخدع فيها عظامُ طير، مات قبل سنوات، على بعد عدة كيلومترات وكأنها خيام بيض مجتمعة قصدا.
بالنسبة للبيئة والشكل كل هذا يفهم. ولكن ما هو الباعث والسبب والصيغة؟
من بين كل ما يقوم به الرجال والدول فإن المسألة الأكثر جدية والأكثر خطرا هي الحرب. هل بإمكاننا ان نتصور دقيقة واحدة انها تتقرر سِريا أو دون علم الشعب المعني الذي لامحالة سيدفع ثمنها بالمال والدم؟ ان من يُقدم على الحرب يُدخل شعبا بأكمله في مغامرة موت وفناء. ان الحرب يقودها رجل واحد، هو القائد العام، ولكن قرار الحرب شيء آخر. اذا كان يقرره شخص واحد فهذه قمة الهوس. في بلد طبيعي، لادولة غير مصنفة، تشترك عدة هيئات في تأسيس قرار الحرب او تعطي رأيها فيه بشكل قطعي، صريح، وخاصة المعارضة لأن الدول في تلك الظروف تبحث عن التوافق والإجماع والوحدة الوطنية. وكثيرا ماتريد مواجهة الحرب بحكومة تحالف وطني.
الحد الأدنى بيان من مجلس الوزراء، ثم الحصول مسبقا على الاذن الشكلي علنا من طرف التمثيلية الوطنية، أي البرلمان، ولم يعد كل ذلك يكفي، الإخبار الواسع المسبق، ضروري وهو لايكفي أيضا. هل تحققنا من شرعية هذا القرار، من منطلق ديني؟. يُكرَر علينا باستمرار، دون أن نعرف لماذا، أننا لسنا دولة علمانية. علينا إذا أن نكون حقا دولة دينية. ماذا يقول نص التنزيل في الدم الذي سيراق من طرف جنودنا وأيضا الدم الذي سيسفك من طرف هؤلاء الذين لم يعتدوا علينا، والمشتهَرين بأنهم مسلمون.
هناك عدة صيغ من التحضير النفسي والمعنوي كان من المناسب أن يُقام بها قبل مغادرة قواتنا.
عرض عسكري للرتل المسافر كان من المفيد، كما كان من الفطنة الموفقة، خلال هذا العرض، استدعاء آخر ما تبقى عندنا من الأولياء والصالحين ليباركوا لقواتنا المتوجهة للخطر. الى جانب النساء المزغردات والفنانين الذين ينشدون فاغو، بين الإبل والبقر التي تنحر تصدقا دفعا للشر، يكون هؤلاء الرجال الصالحون المنطفئو الانفعال ذوو الوجوه الذابلة التي فتك بها الخشوع الدائم والتذلل للخالق، يرتلون الترانيم والدعوات. لاشك ان أكثر العلمانيين تعصبا سيعترف ان تلك الصلوات والدعوات ترتفع الى السماء.
وهل سيكون الشعراء في غير مكانهم؟ الدول والرجال العظام أعطوا باستمرار، في هذا النوع من المناسبات، مكانة خاصة لأولئك الذين منحتهم الطبيعة سر وسحر الكلمة. الفاتح الاسكندر الأعظم، نفسه، عندما دك مدينة طيبة اليونانية المتمردة تقاعس عن موقع واحد : منزل شاعر شهير. عندما غزى المعتصم، الخليفة العباسي، الروم الشرقيين أصطحب أباتمام، الذي خلد تلك الحملة.
إضافة الى ذلك، فإن المفكرين يقولون لنا إن الشعر هو قمة الإنتاج الذهني.
حقا، إننا، منذ التصاريح العلنية لمسؤولينا، أصبحنا نخفي ميولنا للشعر كما نخفي جريمة قتل.
ليس هناك شيء أكثر إلحاحا ولا أكثر فائدة من رفع معنويات الجنود المتوجهين إلى الحرب وخلق تعبئة داخل السكان، لأن السكان اذا لم يكونوا على درجة كافية من الاطلاع قد يتنمروا أو يثورون على القادة في وقت غير موات على الجبهة أو على الساقة، ضد قرار كان من المفروض أن يكونوا مشاركين فيه.
عندما أراد الأمير أعلي الكوري ولد اعمر ولد اعلي الهجوم على أعدائه، في السنة 1200 للهجرة، استشار أهل المعرفة، مع أن إمارته لم تكن تيوقراطية. بهذه المناسبة، لكي لايهمل شيئا، طلب منهم معنى هذا التاريخ 1200 بالأحرف، بحساب الجمل، فقالو له : شر. هذا فال سيئ بجلاء. فقال لهم اقلبوا الكلمة، فقالوا له رش. ففهم ان الرش في الحرب من الدم.
القادة في ذلك الزمن كانوا أكثر ذكاء من الآن.
ولكن لأن ولد اعلي شنظوره كان يحمل اسما مثقلا بالمجد فإنه لم يتقاعس وأقبل على أعدائه، بالرغم من النذير، وقُتل. لأنه كان يخشى العار والشينة أكثر من الموت.
في الجاهلية الاغريقية عندما أراد ملك ليديا اكريزيس وهو قارون عند العرب، لكنه غير ذلك المذكور في القرآن، ذو المال الكثير، عندما أراد تسديد ضربة لكورش اللخميني الذي يتزايد خطر نجمه الطالع في الشرق لم يكتف بموافقة البلاط. فأنتظر أولا أن يستشير كاهنة معبد دلف الشهير. فردت الكاهنة، المشهورة بالغموض أنه إذا أقدم على تلك الفعلة فإنه"سيحطم امبراطورية كبيرة".
هذا التنبؤ الملتبس شجع اكريزيس على خوض الحرب، وكما أن أحكام كاهنة دلف يضرب بها المثل في عدم الشفافية، فإن اكريزيس هو الذي هُزم وحطمت امبراطوريته.
ومهما كان استعجال وإغراء الأرباح المتوخاة من الحرب فإن هناك تدابير تتخذ وإجراءات وشكليات يقام بها أو تنجز عندما يتعلق الأمر برفع الصمصامة الثقيلة لمحصدة الرؤوس. فلايُقدم عليها ببساطة مثل من يقدم على زيارة أقارب في اكجوجت او في روصو من اجل السلام وصلة الأرحام.
هذا التصور هو أيضا السائد في حضارة إفريقيا السوداء. يقام بعدد هائل من الواجبات والطقوس هدفها دفع البلاء واستدراج الحظ السعيد، في الوقت الذي يُشارك فيه السكان. ويعطي لقرار بهذه الخطورة الأبهة اللازمة. إذا كانت هناك عمليات مخابراتية تجري في الخفاء، فليست هناك حروب سرية. على العكس، فإن المطلوب هو أكبر صدى، حسب العادة.
عندما أراد المقاوم الكبير، الموغونابا وبغو، ملك البلاد التي تجري فيها أنهار الفولتا الثلاثة، مواجهة القوات الفرنسية التي أرسلها من بامكوأترانتياهوأرشنار، فإنه لجأ "لأولئك الذين يتمتعون بمعرفة سر العالم الخفي". بعد هذه الاستشارة قرر كبير السحرة ان يضحي، على طريق الملك عند خروجه، بعدة قرابين : دجاجة سوداء وكبش أسود وحمار أسود وقيل عبد من كورونكا.
كون الفرنسيين لم يتمكنوا من إلحاق ضرر بالموغونابا "ولم يجدوا الا روث خيله" ومات في سريره موتا طبيعيا، بعد ذلك بسنوات، يفسره شعب الموسي بتلك التحضيرات الأولية.
في الحرب لاشيء زائدا على الغرض لنضع جميع حظوظ النجاح الى جانبنا.
في مملكة الماندينكو فإن شقيقة صونجياتا كيتا إضطرت الى إعطاء نفسها لتستكشف سر حصانة ملك السوسو، سومانغوروكانتي(الفظيع) الذي ازعج"سقف الماندينكو"، صونجياتا كيتا، كما يقول المغني. ملك السوسو لم يكن قتله ممكنا إلا بظفر ديك ابيض.
أين هو الظفر السحري، الظفر الذي لايخطئ، الذي بالإمكان اكتشافه او إخراجه من مخبئه؟ إذا كان موجودا فالبحث عنه يتطلب تعاون الجميع.
ولكن قبل الشكل والترتيبات هناك المضمون. ماهو المنطق الذي بإمكانه أن يقودنا الى دخول حرب لم يعتد علينا أحد قبلها. وإذا انتهت بحالة انتصار فإنها لاتفتح لنا، في مايبدو، آفاقا بشوشة.
حقا، لايجوز أن نهمل مصير إخواننا الأزواديين وليس من المقبول ان ننظر إليهم نظرتنا إلى الروهينغا في بورما.
الآخرون أيضا، الذين يصارعون الأزواديين، هم بدورهم إخوة، ولكن إخوة مازالوا متعصبين لأوهام الستينات والظلم الذي عرفته تلك الفترة.
إذا أردنا أن نصارح أنفسنا بالحقيقة فإن أطروحة الإرهاب الإسلامي ليست مقنعة في ما يخص أزواد. قضية أزواد هي قضية قديمة، ترجع إلى أكثر من خمسين سنة، وكل تطوراتها ومآسيها معروفة عندنا. محاولة إغراقها في مشكلة الإرهاب الإسلامي هي محاولة يائسة. في الحاضر لاشك انها جعلت الحركات الأزوادية الوطنية رهائن، والهدف الآن هو أن يضاف إليها الجيش الموريتاني كرهينة.
البحث عن السلم في مالي يبدأ بفصل قضية أزواد عن خليط المطالب والاحتجاجات والمظالم، علبة باندور التي شاركت، في مايبدو، ثورة أزواد في فتحها وأثرت فيها كالكاشف الكيمياوي.
يجب فصل الظاهرة العارضة عن الظاهرة الحقيقية الأصلية. ومن يريد السلم عليه أن يشارك الأزواديين ويغريهم بحقوقهم.
قد يكون من اللازم، لو كان من يتحكمون في المصير المالي قرروا حلا حقيقيا عادلا ومقبولا عند اهل ازواد، ان نشارك في تأمين عسكري مؤقت في الزمان ومحدد في المكان، تخصص له ميزانية ليس متعهدا بها، وإنما مرصودة، جاهزة للاستعمال.
الاعتماد على تبرعات مالية احتمالية، سبق أن رفضت هيئة الأمم المتحدة ضمانها، هو ضرب من الغباء. الطريقة التي تجري بها المناقشات منذ مايزيد على سنتين في هذا المنوال لا تدعو للاطمئنان وتشبه كثيرا مشاجرات خدامات المنازل مع البائعين في السوق عندما تتهمهم أنهم لا يحرصون على الوفاء بالكمية والنوعية المتفق عليها.
الخطر الذي يتهددنا يشبه هذا الزبون الذي دخل مطعما وطلب سمكة ولكنه فيما يخص تسديد الفاتورة هو يعتمد على اللؤلؤة التي يتمنى أن يجدها داخل السمكة.
نعم، ان الفرنسيين قالوا، قبل مدة، ان الدفاع عن مرسيليا يبدأ من بامكو. إننا نفهم مايقولون، ان لديهم الحس الاستراتيجي. ولكن نحن لسنا في شمال بامكو ولكن على الغرب منها. يجب أن لا نخطئ في الجهات. الدفاع عن موريتانيا يبدأ من العيون – عيون الساقية الحمراء – والداخلة واندر(سانلويس)وبًكل (اوبكار) . دون أن نكون مطمئنين تماما لصداقة جيراننا الغربيين وحسن نواياهم الدائم في حالة تدهور الأوضاع والمعطيات العسكرية فإنه من الصعب بل من المخاطرة، تدخلنا لنجدة الساحليين الشرقيين.
لابد ان نكون واثقين ومطمئنين ان نزاعا مسلحا لن يحدث في منطقة الكركرات على مرمى قذيفة مدفع من ما نعتز به، وهو المنطقة الحرة والميناء المعدني، أو على طول السكة الحديدية التي تنظر، على مدى يقارب 500 كيلومتر، إلى حدود الصحراء الغربية. والتي يمر مقطع منها داخل الصحراء نفسها على مسافة كيلومترات، منذ حرب 1975-1978 لتجنب النفق القديم تحت "طارف" شوم.
مالذي يضمن لنا أنه لن يقع حادث صيد أو غاز فجائي أو متعمد في مياه انجاكو والقاهرة قرب أندر؟
كل هذه الاحتمالات ممكنة، بل متوقعة في ظروف معينة ومن شأنها أن تضعنا، مع اعتبار الفارق، في وضع غير مريح، ثم يائس صراحة، مثل الذي وقع فيه بولوسومانستاين العظيم نفسه.
القدوم الى بامكو لن يكون له معنى كبير، لأنه سيتبين بسرعة أن تأمين أزواد يتطلب تأمين ماسينا والنيجر وبركنافاصو.
الالتقاء والتواصل تم منذ مدة طويلة بين كل ما يتحرك ويتمرد ضد الظلم والسيطرة في شمال مالي ووسطه وشمال النيجر، مع "بوكوحرام" وحزمة من التمردات الأخرى ضد الاقصاء وسيطرة الحاكمين على الثروات.
مع كل مانسمعه من تحريض وتهديد وتصريحات نارية وتدخلات عسكرية، فإن جبهة التماس مع مايسمى الإرهاب لم تستقر، على العكس فإنها مستمرة في التمدد والتوسع.
إنها قفزت على اكران بسَام وهو خارج تماما الى الجنوب من ارض"الديولا" وألسنة لهيبها تمتد حتى الى أرض "أنكورما" في بوركينافاصو. على الجنوب الشرقي فإن الجبهة لم يعد لها حد . حركة بوكو حرام بعد ان تمددت وتوالدت في جنوب وشرق النيجر وصلت إلى شمال الكامرون، في مرتفعات الآدماوا، أي المملكة القديمة لأدم مرافق عثمان دان فو ديو. لكي يُقضى على كل هذا لابد لمن يطمح إلى هذه المهمة أن يسيطر على عالم الفلان وأشباههم في وسط مالي حول أطلال "حمد الله" عاصمة شيخو احمدٌ وصخور وأجراف باندياكرا، المأوى الأخير للحاج عمر الفوتي. من هنا لابد من التقدم نحو الجنوب الشرقي، نحو زندر، العاصمة القديمة للنيجر في أرض الهاؤوسا، أي الوسط الذي تحس بوكو حرام فيه أنها في بيتها. ضربات الفأس إلى الأمام ستتعقد وتقل جدواها.
الشعبان الفلاني والهاؤوسي يلتقيان في منطقة تلاقي العجز الاقتصادي والعجز الاجتماعي والعجز السياسي. انهما متداخلان في الجنوب منذ عهد عثمان دان فوديو ومتأثران بالإسلام إلى حد بعيد. فإنه جزء من ثقافتهم وشخصيتهم، إذا قلنا إن هذين الشعبين دينهما الإسلام ببساطة فإننا لم نميز بما فيه الكفاية مكانة الإسلام في مخيلتهما العميقة، إذا قلنا بعد ذلك إن وسط إفريقيا مسيحي، فليس بنفس العمق ولانفس الاستيعاب ولانفس المدة. وحتى إن الجنوح يغازل الانسان الى درجة أن يقول إنه ليس نفس الإسلام الموجود عند شعب الماندينكو وهو عريق في الواقع.
ان الناطقين باللغة البولارية، بشكل خاص، يتمتعون بتناغم او انسجام مع الإسلام، في مايبدو، يسهل عليهم معرفته. هناك شيء يشبه ذلك التماثل السائد بين اللغة العربية والشعر واللغة الألمانية والفلسفة.إن معرفتهم للإسلام تشبه معرفة أولئك الذين انفجر بين خيامهم فجأة كالرعد في سماء صافية في السنة 610 .
ليس هناك ملايين من العرب يساوون عثمان دان فودويو والشيخ أحمدٌ والحاج عمر.
يبدو أن البولاريين اعتنقو الإسلام زمنا طويلا واستوعبوه بتأن. هذا مايفسر، ربما ، كونهم أدخلوا في الإسلام شعوبا أخرى وأنتجوا، في مراحل مختلفة، حركات تعميق وتجديد وفتوح. الدين المفروض يصعب عليه ان يصبح تبشيريا.
ان التقسيم، ليس التقسيم الاستعماري وإنما تقسيم الاستقلالات عام 1960، حرم هذا الشعب الرفيع من دولة يعطي فيها ثمرة قدراته وعبقريته، وهذه العقدة ليس التعامل معها سهلا ويجب أن لايعمق هذا الجرح .
من يجهل التاريخ بإمكانه أن يرجع إلى الجغرافيا وينظر في خريطة ويتساءل باسم أي مبدأ أُلحقت الأدماوا بالكامرون. كل هذا يعني أننا لانتوجه إلى أرض خالية ولا إلى ملاقاة أقزام البيكمي البائسين.