إن كان النظام ـ فعلا ـ هو من قرر سحب الأمين العام المساعد للحكومة من برنامج الاتجاه المعاكس، في إطارا التجاوب مع جهود التهدئة وتجاوز الأزمة مع الإسلاميين، فقد أحسن صنعا، فالصلح خير، والمشاكسة بين شركاء الوطن على منابر خارجية لا تخدم جهود المصالحة وعودة الأمور إلى نصابها، في ظرفية زمنية استثنائية تقف البلاد فيها على مشارف انتخابات رئاسية مفصلية، تحتاج من الطمأنينة وجو السكينة أكثر مما تحتاجه أي فترة أخرى، وهي خطوة تستدعي من الطرف الآخر أن يستقبلها بمنطق الإعراض صفحا عن التصعيد والتهويل.
أما قصة البث المباشر وتسجيل البرنامج، فهذه نكتة لا تنطلي على أحد، فتقنيات التلاعب والفبركة متاحة اليوم في المباشر كما هي في التسجيل ـ لمن أرادها ـ وأبسط طريقة لذلك على سبيل المثال لا الحصر ـ وتتم غالبا في البرامج التلفزيونية المباشرة ـ هي وضع فارق زمني يقارب نصف دقيقة أو ثلثيها بين حديث الضيف وبثه على الهواء، وهي فترة زمنية تتيح التحكم فيه واقتطاع المرغوب في مصادرته، والتلاعب به، وتستخدمها الكثير من القنوات لتفادي بث ما يخالف خطها التحريري أو يخدش الحياء العام أو يصادم القانون، نظرا لأن الجهة المسؤولة عن البث تحاسب قانونا على محتويات بثها، ولا عذر بالمباشر، كما أن برامج تعديل الصوت والتلاعب بالكلمات والجمل والتشويش عليها بشكل دقيق لا يلفت الانتباه، متاحة وبسيطة.
ثم إنه ليس مستساغا أن يأمن المرء على حياته ونفسه ويسافر إلى عقر داره عدوه، الدوحة والجزيرة، ثم لا يأمن على كلمات سيقولها، وبإمكانه أن يكتشف ويفضح أي تلاعب يحصل فيها.
وإن تأكدت الرغبة في التلاعب فكل الاحتمالات متاحة وواردة أمام المتلاعب، بما في ذلك التلاعب بالقدرات الذهنية والعقلية للضيف نفسه وهو في قبضة مضيفه، عن طريق مأكله أو مشربه أو بأي وسيلة أخرى، ثم يساق إلى الاستديو في بث مباشر وقد شلت قدراته الذهنية ليهذي بما لا يعقل، هذا فضلا عن أن كل ضيف بإمكانه الحصول على نسخة من التسجيل فور الانتهاء منه إن هو طالب بذلك، وله الحق في حضور ومواكبة مونتاج الحلقة قبل بثها.
كما أنه ليس مستساغا أن يسافر موظف برتبة وزير إلى بلد معاد ـ دبلوماسيا على الأقل ـ ليشارك في برنامج على شاشة قناة يعتبرها أحقر قناة، وأشد الناس عداوة له ولمن معه، ثم يقرر الانسحاب لأن البرنامج ليس مباشرا، فقرار المشاركة أصلا كان تكليفا، وقرار الانسحاب من المنازلة أكبر من أن يتخذه الضيف من تلقاء نفسه.
ومما يعزز فرضية تأثر البرنامج بمساعي التهدئة ـ وهذا ما يتمناه الجميع ـ أن الأستاذ أحمدو ولد الوديعة تحدث خلال البرنامج كمعارض سياسي، لكن بخطاب ما قبل الأزمة بين الإسلاميين والنظام، فلم تستهويه صرعات فيصل القسام وعباراته النابية وتخريجاته الجارحة كالطرطور وجنرالات الرز وغيرها، ولم يسايره فيها، وأقر بأمور إيجابية للنظام ما كان ليقر بها لو أن الضيف الآخر كان نصب عينيه، والأزمة على أشدها.
لا عيب ولا شية في أي جهد يستدعي تهدئة الأوضاع وتجاوز الأزمة، والانسحاب إن كان من أجل مصلحة عليا للبلد كتفادي التصعيد بين الفرقاء فهو حسنة تحمد وصنيعة تشكر، إما إن كان بحجة أخرى كالمباشر والمسجل، فذلك لعمري هو التولي عند الزحف والإدبار ساعة النزال، ولا أتصور أن الكنتي خاطر ـ كما يعتقد هو ـ بالإقامة في الدوحة، وسمح لجواز سفره أن يضم بين دفتيه تأشيرة دخول لقطر، ليتفرج على برنامج الاتجاه المعاكس من داخل غرفة في أحد فنادق الدوحة.
وقديما قالت العرب إن أقبح ما قيل في الاعتذار قول امرئ القيس.
وما جبنت خيلي ولكن تذكرت... مرابطاها في بربعيص وميسرا.