في ذلك الصيف الساخن من منتصف السبعينيات من القرن العشرين؛ وفي خضم حرب عصابات شنها المقاتلون الصحراويون على موريتانيا والمغرب؛ قصفت قوة من مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب أهدافا في انواكشوط؛ وأثناء انسحابها تم اعتراضها من قبل الجيش الموريتاني. والنتيجة كانت موت الأمين العام للبوليزاريو ورئيس الجمهورية الصحراوية المعلنة حديثا في مخيمات اللاجئين الولي مصطفى السيد وبعض رفاقه ونجاة أكثرية مفرزته العائدة من عمليتها.
كانت الحرب بين المقاتلين الصحراويين والجنود الموريتانيين من جهة وبين المقاتلين الصحراويين والجنود المغاربة من جهة أخرى، والتي بدأت وانتهت في جانب وتوقفت في آخر غير متكافئة أصلا، فالصحراويون لا يملكون حينها جيشا بل مجرد أفراد انخرطوا للتو في حركة تحرير ثائرة على دولة إسبانيا (المستعمر السابق للصحراء الغربية) ثم على الدولتين اللتين تقاسمتا الصحراء للتو؛ المغرب وموريتانيا.
الرئيس الموريتاني الراحل المختار ولد داداه كان احتضن البوليساريو في انواكشوط وتحدث معها قبل تأسيسها في ازويرات وبعد تأسيسها. لم تكن بينه وبين الحركة مشكلة؛ فمعظم ناشطيها وقادتها هم منحدرون من موريتانيا أو تربطهم علاقات أسرية وألسنية بموريتانيا والرجل الداهية المختار يتبنى مقاربة ألسنية وجغرافية وثقافية لموريتانيا الكبرى، خصوصا أنه أول رجل معاصر من النسيج الحسانوفوني يرأس دولة .
انسحبت إسبانيا -المستعمر البخيل الضعيف حينها ضعف الجنرال فرانكو - من الصحراء الغربية ودخل الجيشان المغربي والموريتاني كل إلى رقعته من المنطقة واندلعت الحرب.
سمتها موريتانيا حرب إعادة التوحيد وسمتها البوليزاريو حرب التحرير وسماها المغرب حرب إكمال الوحدة الترابية. كان المغرب قبلها بسنوات يطالب بموريتانيا ثم مالبث أن اعترف بها تحت ضغط الواقع الجيوسياسي والمستعمر السابق للمغرب وموريتانيا(فرنسا).
قاد الصحراويون حرب استنزاف على شكل عصابات تضرب في نقاط متفرقة شتتت انتباه الجيشين الموريتاني والمغربي وأربكت حساباتهما كثيرا. رغم تلقي المقاتلين الصحراويين القادمين من منطقة لحماده الجزائرية إلى أرض يعرفونها وتعرفهم، لأنها في الغالب مراتع صبا لبعضهم وحاضنة تلقائية للبعض الآخر، لضربات قوية في العدة والعتاد.
الجيش الموريتاني الفتي رمى بكل ثقله في تلك الحرب التي اعتبرها الرئيس الراحل خيارا استراتيجيا لا عاطفيا ، فالمغرب -من وجهة النظر الموريتانية - ستنكسر أطماعه التوسعية المكبوتة حديثا حينها على مقصلة الشراكة في اتفاقية مدريد، والبوليزاريو جماعة يعرفهم الموريتانيون كما يعرفون أبناءهم والقوة العسكرية ليست في صالحهم واحتواؤهم مسألة وقت.
كان الضباط والجنود الموريتانيون حينها لم يخوضوا حربا بعد، وقد سجلوا أروع البطولات واستشهدوا بعزة وكرامة في مواقع كثيرة.
أما في الجانب الصحراوي فقد اتخذوا خطابا تحرريا يساريا وحشدا جغرافيا وحتى قبليا نالوا به موقعا في المعسكر الاشتراكي واستمالوا به الكثير من شباب ما اصطلح عليه في قاموسهم (الجاليات الجنوبية) إذ يعتبر الصحراويون أنفسهم لاجئين في دول الطوق الصحراوي كلها وليس فقط الجزائر؛ ووصل المتطوعون من أطار وبتلميت وانواذيبو وازويرات.
وقد فقد الصحراويون والموريتانيون الكثير من الشباب المأسوف عليهم وسجن الكثير منهم، وتعرضت القبائل الموريتانية الشمالية للكثير من المضايقات شبه الرسمية وتعومل معهم في الغالب بحذر في دوائر صنع القرار الأمني والسياسي رغم صعوبة التمايز المطلق في النسيج الاجتماعي وتداخلات المكان والإنسان واللسان.
ادعت البوليزاريو وموريتانيا حين الحرب وبعدها كل من منطلقه أن الحرب فرضت عليه فرضا.
وسرعانما حدث انقلاب عسكري في موريتانيا صيف 1978أوقف النار على الجانب الموريتاني وأربك الحرب في أبعادها العسكرية والجيواستراتيجية، وبدأ الموريتانيون والصحراويون يلملمون جراحات تفاوتت في الغور والفور ملتثمين بالجيرة والتعالقات وانشطارية المجتمعين والواقع الجديد للإقليم المتنازع عليه والذي صار في معظمه تحت السيطرة المغربية.
اليسار الموريتاني حينها ندد بالحرب وساند الصحراويين إيديولوجيا وسياسيا وبعض القوميين الموريتانيين تطوع بنفسه وبعض المتعاطفين تطوع للبوليزاريو بنفسه وماله ومعلوماته، ويعتقد بعض الموريتانيين أن خيانة عظمى للوطن الموريتاني حدثت داخل موريتانيا في تلك المواجهة حتى إن أحكاما بسحب الجنسية صدرت حينها في حق البعض، ولأصحاب ذلك الرأي حججهم.
ويعتقد بعض المستنطقين للحدث الجلل أن مفردات القلوب والمآقي والعقائد كانت تملكت البعض أكثر من العقد الاجتماعي والإداري والسياسي بين وطن ومواطنين. ولأصحاب هذا الرأي حججهم.
يحسب للصحراويين والموريتانيين الاستماتة من أجل القضية فقد مشوا في ما آمنوا به، إذ كان الموريتانيون يدافعون عن شيء ثقافي وتأريخي شمولي لم يرض الصحراويون عنه حينها وكان الصحراويون يعدون العدة لعدو غير موريتانيا.
فألئك يتبنون مشروع "دولة البيظان" الذي تبلورت بواكيره مع دخول المستعمر وهؤلاء ينافحون عن حق تقرير المصير لدى مستعمر أوروبي احتلهم لحوالي ثلاثة أرباع قرن.
لم تنقطع الصلات والقرابات لكن المجتمع الحسانوفوني تشتت في زمور وتيرس وامگركر وماجاورها، فوضعت جدران أمنية ومفاهيمية وإقليمية وأخذ التدويل مجراه.
يظن الصحراويون أن مادار بينهم والموريتانيين هو أيام عصيبة بين إخوة انتهت غير مأسوف عليها ويظن الموريتانيون أنهم فعلوا واجبهم الوطني والجمهوري تجاه أرض ولاؤهم لها وولاؤها لهم محسوم سلفا.
والمنطق يقول إنها أيام نحسات ساد فيها منطق النار على منطق الحوار، لم تكن الأولى بين أي شعبين إخوة في الدين والأرض والعرض ليس فيها غالب ولا مغلوب ولا ظالم ولا مظلوم، مات فيها رجال من الجانبين يحتسبهم ذووهم ومحبوهم شهداء في كل الأحوال.
للموريتانيين جمهورية مستقلة ولهم زعماؤهم وشهداؤهم الذين يستحقون الذكروالتأبين والتخليد وقراءاتهم لماضيهم مهما تعددت زوايا النظر لديهم، وللصحراويين قضيتهم التي آمنوا بها وماتوا وحييوا من أجلها ولايزالون، تماما كمالهم أيقوناتهم ورموزهم ونضالاتهم التي تجتاحهم أيما اجتياح، فلم أر في حياتي رجلا أحبه قومه دون أن تعرفه غالبيتهم أكثر من الولي مصطفى السيد لدى الصحراويين رغم اللجوء والحرب ومفرداتهما.
متثاقلة هي الحروف التي تمشي على رفاة الإخوة الأعداء وقاسية هي المتاريس التي تحكمها، ولعل التاريخ والتأريخ وحدهما من سيسكب الماء على نيران الفجيعة.
فهاهو الشعب الصحراوي واضع يده على الزناد لم يحقق بعد أهداف قائده الولي التي قاتل من أجلها وتلك موريتانيا تنافح بكبرياء من أجل أن يعم السلام الصحراء الغربية، وفي انتظار أن يحظى القائد الصحراوي الشاب بمرقده الأبدي يبقى في روضته المؤقتة في أرض أحبها وقاتلها ومات على أديمها رغم التداني والتنائي والعتب والقربى.
فليرقد شهيد القضية الصحراوية الولي مصطفى السيد بسلام، ورحمات الله تترى على أرواح الشهداء الجنود والضباط الموريتانيين الذي قضوا في تلك الحرب الخاطفة لا ردها الله.