
في عربدته المستمرة، واستهتاره المتواصل بكل ما له صلة بالحياة والإنسانية ليس غريبا أن يهاجم الكيان الصهيوني دولة قطر، فما من شك أنها على رأس لائحة أعدائه. ولم يكن من الممكن بعد كل ما قدمته قطر لفلسطين إلا أن يمتزج الدم القطري والفلسطيني في يوم من أيام الشهادة والفداء، ومشهد من مشاهد الرفقة والإخاء، حينما ترقى شهيدا أحد رجال الأمن القطريين وهو يؤدي واجبه في حماية أسود غزة ضيوف قطر كعبة المضيوم.
ولا شك كذلك أن نكاية قطر في الكيان ليست بالهَيِنة، بما تملك من وسائل ضغط عالمية، وترسانة إعلامية، كانت أهم وسيلة لتعرية الكيان الغاصب أمام العالم، وكسر صورته التي بنى طوال ثمانية عقود من المظلومية الزائفة، فكثيرا ما سمعت أخي وصديقي إبراهيم الدويري يقول: "إن الأمة لا تمتلك من المشاريع الاستراتيجية إلا مشروعي كتائب الشهيد عز الدين القسام وقناة الجزيرة القطرية"
لقد جاء هذا الاستهداف الغاشم ليزيد ويعمّق مصداقية قطر لدى الشعوب الإسلامية والعربية، ولدى أحرار العالم، وليؤكد من جديد أنها الحضن الأهم للمقاومة، والصوت الأندى في التعبير عنها، واليد الأكثر سخاء في إسناد ذلك الشعب الأبي الذي نسف أساطير الكيان الغاصب ومرغ أنفه في وحل الجرائم الإنسانية.
لقطر تاريخ طويل في مواجهة العدوان الغاشم، لأنها انحازت باكرا، بل قل لإنها تأسست على عون الضعيف وحماية المستجير، فكانت كما أراد لها مؤسسوها كعبة المضيوم. وقد أظهرت خارطة الحضور القطري خلال العقدين المنصرمين، أنها في عمق قضايا العرب والمسلمين والإنسانية، سندا حاميا، ومحاميا مدافعا، ومغيثا عند اشتداد الأزمات الإنسانية، بل يمكن القول إن لسان حال قطر:
وأينما ذكر اسم الله في بلد
عددت أرجاءه من لب أوطاني
وكعبة المضيوم إذ تواجه هذه الضربة التي وقى الله شرها، بفضل بسالة وتمكن الأمن القطري وقدرته الاستباقية التي مكنت من إنقاذ تلك القيادات الكبيرة التي وجدت في الدوحة المأوى والمأمن، فهي رسالة مهمة ذات أبعاد متعددة، تؤكد أمورا ذات دلالات محورية في الصراع العربي الإسرائيلي:
1- مركزية القضية الفلسطينية لدى قطر، فهي كما قال سمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني: إنها "قضية مرجلة"، بما تعنيه هذه الكلمة من التزام بالدعم والمساندة في ثقافة أهل الجزيرة العربية، وهو ما أكدته السنوات الماضية حين تخلى الجميع عن غزة، وحاصرها الأقربون كان الدعم القطري لفلسطين وغزة حاضرا في كل الميادين، وقد بلغ مجمله حوالي مليار ونصف مليار دولار بين عامي 2013-2023، كما كانت القضية حاضرة بقوة في خطابات سمو الأمير السنوية في مجلس الشورى وعلى منبر الجمعية العامة الأمم المتحدة.
2- ولم يبدأ الدعم القطري للقضية الفلسطينية مع سمو الأمير الشيخ تميم بل كان والده سمو الأمير الوالد شيخ فلسطين والمنافح عنها في القمم العربية العادية والطارئة، وهو الزعيم العربي الوحيد الذي كسر حصار غزة مع حرمه سمو الشيخة موزا بنت ناصر في زيارة رمزية شجاعة، ولا تسل عن الـدعم والمبادرات التعليمية والسكنية والصحية.
3- حين يُقلّب العربي صحائف التاريخ المعاصر سيجد أن الدوحة نالها أذى كثير بسبب مواقفها الصلبة الداعمة لفلسطين؛ وليس ذلك انتهاء باستهداف قادة حماس أمس فيها، وهو تاريخ أخوة يكتب بالدم، ويكفي الدوحة شرفا عند أنصار المقاومة وأحرار العالم أنها مأوى سيد شهداء الطوفان أبي العبد هنية وكثير من شهداء فلسطين وأحرار الأمة.
4- يحاول الصهاينة بضربتهم الغادرة زعزعة مكانة قطر وسمعتها الدولية في الوساطة النزيهة والحلول الدبلوماسية الفعالة التي بنتها عبر عقود من الوساطات الناجحة وثقة الشركاء الدوليين، وهي مكانة نالتها قطر باحترامها لقيمها ومواثيقها وبصلابتها في مبادئها في الآن ذاته، والعالم يحتاجها في قضاياه الشائكة من النزاع الروسي الاوكراني إلى إفريقيا وآسيا...
5- أثبت الصهاينة في قصفهم لوفد حماس المفاوض أنهم قوم بهت لا يرعون للعهود إلاًّ ولا ذمة، وأنهم متعطشون للدماء، وأن حبل الناس بدأ ينقطع عنهم فصاروا في مواجهة مع المجتمع الدولي ومبادئه وقيمه المتعارف عليها.
6- أكد الكيان الصهيوني أنه يعيش مرحلة بداية الزوال، بتحوله إلى وحش مجنون يطلق النار في كل اتجاه، سعيا إلى إنقاذ كيان منهار، وجيش متهالك، وشذاذ آفاق جمعهم الحقد والأساطير الصهيونية، وسيفرقهم العدوان الذي جمعهم، وسيقضي عليهم الدم الذي يسعون لإغراق غزة فيه.
7- فضح القصف الصهيوني حجم الخذلان في العالم العربي والإسلامي، ولكنه في نفس الوقت أبان عن مكانة قطر ، ومحوريتها في الإقليم والمنطقة والعالم ، حيث أجمع الكل على إدانة الهجوم الإرهابي، والتعبير عن التضامن التام مع قطر.
8- كما كشفت الضربة الخائبة أداء استخباريا وسياسيا ممتازا لحكام قطر، فقد أنقذوا ضيوفهم، وعروا الكيان البغيض، وحشروه مجددا في الزاوية، بتعليق المفاوضات، ليعود الكيان معلنا إمكانية انتهاء الحرب في أي وقت، وهو ما يعني تساقط أوراقه، بل واحتراقه بلهب المقاومة المظفرة.
إن كل هذه الرسائل، تؤكد مركزية قطر في صناعة التحولات الكبيرة في المنطقة، وأنه لا سلام بدونها وبدون دورها الفعال، وأنه مع الجزيرة لا تستر على القتلة،، وتؤكد أيضا أن لقطر بتوفيق الله السند الأهم والأعلى في حماية المقاومة واحتضانه.