تركيا والاستثمار في الأكثريات!! / محمد غلام الحاج الشيخ - نائب رئيس مجلس النواب الموريتاني سابقا

أحد, 05/01/2025 - 18:09

في الخامس والعشرين من شهر إبريل من سنة ألفين وستة عشر انعقد في إسطنبول مؤتمر للمهاجرين العرب تحت عنوان "شكرا تركيا"، حضرته شخصيات رسمية تركية ورموز من المهاجرين، أسند لي الشيخ والنائب اليمني حميد الأحمر رئيس المؤتمر إلقاء الكلمة الختامية للحاضرين. أذكر أنني حاولت تمرير فكرة أساسية إلى أهل تركيا بعد الشكر والتقدير المستحق؛ مفادها انتبهوا إلى أن الذين يحتمون بكم من بطش الطغاة ليسوا ضعفةً ولاهم مساكين، بل هم خلاصة الأمة وموطن الإباء منها والشمم. 
فالذين ثاروا على الطغاة ورفضوا الهوان وتم استهدافهم نظراً لفاعليتهم، هم صفوة الناس من أهل الرأي والفكر، وهم جموعٌ تلجأ اليوم محتاجةً للحماية، لكنها غداً تعود إلى بلادها مؤثرة فيها وفاعلة، وسوف تكون لتركيا سفراءَ تذكرُ جميل أفعالكم وتردها بأحسن منها أو مثلها..
يتحقق ذلك اليوم ولو بعد حين في سُرة الأرض وموطن الحضارة وعذوبة الحياة، يحصل في الشام، بعدما صبرت تركيا رئيساً ودولةً وغالبيةَ شعب، نصروا أهل سوريا وتحملوا لأواء مشاركة المهاجرين لهم في السكن والغذاء والدواء والأمن. 
لقد تحمل الرئيس رجب طيب أردغان أياماً عسيرةً وهو متشبثٌ بأخلاق الأنصار مع المهاجرين، مصراً على ألا تجتاله دعاية الغوغاء ضد المهاجرين، ولا تُزله عن القرار الاستراتيجي بالاستثمار في رصيد القيم وذاكرة الشعوب التي تحتفظ في داخلها بجمال المواقف بعد انقشاع موج القشوريين والغوغاء من أهل الزبد البشري الذين لا ينظرون لأبعد من أقدامهم..
هنالك فكرة تلحُّ عليَّ دائماً: ألا وهي تأسيسُ منبر يعتني بالأكثريات وسط اهتمام مبالغ فيه بالأقليات، مع التغاضي عن مآسي الأكثريات التي تُطحن جموعاً في دولها لا تجد نصيراً ولا يَستثمر فيها طامح للمستقبل. 
إن العالم يعيش حولا ثقافيا تجاه الشاذ من الآراء والمواقف والناس، والقوى الكبرى تحارب المشترك الإنساني من القيم، والانسجام الاممي بين الحضارات.. والفطرة السليمة بين الناس.
وفي الحاضنة العربية والإسلامية نجد أن الطائفية الإيرانية قد استثمرت في أقليات مذهبية سيطرت بها على محاور جوهرية في خريطتنا، وذلك من خلال مدها بما تحتاج من التدريب والتأطير والحماية، الأمر الذي جعل إيران حاضرة عن بعد ومؤثرة بقرب في أحشاء محور من أهم محاور الصراع الحضاري والديني على وجه الأرض. 
بينما تعرت انظمة مهمة وضاعت مصالح لا حصر لها لدول منا أساسية لأنها لم تستثمر في الأكثريات السنية المكبوتة بل إن عداءها للحركات الإسلامية الوسطية ذات النهج السياسي والتي تمثل واسطة العقد لأهل السنة اليوم والعقل المتحرك بينهم برؤية كل ذلك جعل الكثير من الفرص تضيع علينا في خضم الصراع الذي أجهد الجميع وأذهب ريح الامة …
ولو تعقلت هذه الأنظمة وتابت من دوامة الاستنزاف وانطلقت بخطط جديدة متصالحة ذاتها الجغرافية وذائقتها الشعبية والحضارية موقنة بخصوصيتنا الدينية والتاريخية وحتمية التباين بيننا وبين حضارة الغرب ذات الذهنية الصليبية والتي لا سبيل لإرضائها إلا بالتخلص من خصوصياتنا وعلائقنا الدينية والثقافية..
الأمر الذي تأباه الشعوب التي عضت بالنواجذ على الإسلام وتراكمه الحضاري عبد القرون المنصرمة وحافظت عليه من الضياع وانصهرت في بوتقته وقام منها المصلحون بواجب التجديد يصبرون على الاذى ويدفعون الاثمان قبل الانتصار في كل مرة.
في ذات السياق يبرز النموذج التركي في العقود الأخيرة المتصالح مع ذاته وخصوصياته والذي رزق قيادة لا عٌقد لديها من ثوابت الأمة وقضاياها الجوهرية مثل قضية فلسطين والأقصى.. بل تعتبر تلك المعالم اساس القوة الناعمة.
تلك القيادة لم تكن قيادة دينية بالمعنى الكنسي ولم تتحدث باسم الرب) ولم تفرض على الناس أي نمط من أنماط التدين لكنها تصالحت مع الإسلام وخرجت من دائرة الصراع معه تاركة إياه ينساب بقوته الذاتية وهي سلاحه الذي لا ينبو ودافعيته التي لا تكبو.
لقد كانت تركيا موئلا للمظلومين من مسلمي الصين والهند مرورا بالدول العربية والإفريقية وساعد في كونها جاذبة ما تتمتع به من مميزات سياحية وبنى اقتصادية مع مرونة قانونية سهلت التكيف القانوني للوافدين والانخراط في الكدح المادي لهم..
ولقد استفادت تركيا من هجرات الجموع إليها وذلك بجلب رؤوس الأموال وتصدير السلع التي أضحت مرغوبة كسلع لدولة يغضب رئيسها في دافوس مدافعا عن أطفال فلسطين مع بقية المواقف المشرفة.

هل تدرك الأصوات المؤججة لكراهية الأجانب بأن البضائع التركية ينتقيها المستهلك نتيجة مواقف تركيا واهتمامها بقضايا العالم الإسلامي الأمر الذي فتح لها وللشركات التركية آفاقا كبرى في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه.

وإن تعجب فعجب كون نساء موريتانيا يرابطن في وقت متأخر من النهار أمام مقر ضيافة أردوغان، وما ذلك إلا لمكانته كقائد ناب عن الأمة في قضاياها الكبرى..
لقد ظهر الرئيس أردوغان بعد سقوط النظام السوري منشرح الأسارير طلق اللسان وهو يتحدث بزهو عن نجاح الرهان على منطق الأخوة والجيرة.
الأمر الذي دفع شانئيه إلى ابتلاع ألسنتهم، وتركيا تحصد نتائج باهرة لسياسة دولة كبرى خططت واستثمرت، وها هي تجني ثماراً باهرةً لأمنها وتجارتها وحفظ حدودها، فبدخول الثوار القادمين من الكنف التركي زالت كل المسوغات التي دفعت الأمريكان إلى اختلاق الحماية للقوات المزعجة للدولة التركية على الطرف الآخر من الفورات. 
كما أن سوقاً ضخمة انفتحت لكبريات الشركات والمصانع التركية كي تتنفس فيها، وتجني الأرباح وحصد الفرص بدون منافس. 
كل ذلك مع توسيع الملعب التركي في مجال السياسة الدولية والتأثير في مناطق الصراع الملتهب على ضفاف القارات. 
لقد كان بالإمكان بذل المزيد من الجهد في إفادة النخب المهاجرة إلى تركيا، فلدى تركيا ما تبذُّ به من خبرات متراكمة في البناء والتشييد، كما أن احتكاكها الحضاري بأروبا أكسبها خبرات عملية ومؤسسية، ودولنا بأمس الحاجة إليها.

ولعل الدخول القوي لإدارة العمليات إلى المدن السورية وما صاحبه من عمل ميداني مباشر في الملفات الخدمية والدبلوماسية والسياسية كان نتاج دروس عملية تم التحصل عليه بعد الاحتكاك بالأتراك في مناطق إدلب المتاخمة لتركيا.
وستؤثر سوريا المستقرة والديمقراطية على دور تركيا الإقليمي، مما سيدفع الشعب التركي نحو التفهم لسياسة خارجية أكثر تعاونا مع الأكثريات. 
إن وجود المهاجرين العرب والمسلمين مع الأكراد والروس وغيرهم في تركيا ليس مجرد تحد بل هو فرص وجسور لبناء ثقافي أكثر تنوعا وازدهارا. من خلال تبني نهج استراتيجي لرؤية حضارية وتنموية تعالج التحديات، وتستثمر في الإمكانيات غير المحدودة لأكثريات في القلب منها مصلحون استعصوا على الذوبان لما يحوزون من إمكانات.
يمكن لتركيا جني العديد من الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تجلبها هذه الفرصة السانحة والثابتة.

تصفح أيضا...