المستشار أحمد ولد هارون يكتب : إحراجا للنخبة (ج ١)

أربعاء, 01/01/2025 - 23:54

إحراجا للنخبة – الجزء الأول

 

بينما تقف الأمم نهايةَ كل عام لتُسائل زمانها وتُراجع أحلامها، يغرِق بلدنا ذاته في لجة من العدم ويتفرج على عام آخر من العمر يبتلعه الفراغ. 

 

لا شيء في دفتر الرهانات والمكاسب يستحق أن يُذكر: إجماعٌ على العدم، وتهدئةٌ سياسية تقضي على السياسة نفسها، وقانونٌ لصَوْن الذات الرئاسية من أنين المواطنين، ورئاسةٌ احتياطيةٌ للاتحاد الإفريقي بلا أثر، ونظامٌ يحاكم نفسه محاكمة وهمية لا أفق لها ولا تقنع أحدا، ولجانٌ وزارية عليا لمحاربة البذخ في المناسبات الاجتماعية، ومبادرةٌ لأرباب العمل تسهل الزواج، وفتاوى رسميةٌ تؤصل ذلك العبث وتستكمل فصوله.

 

وطنٌ يُفْرَغ من طموحاته وفرصه لتُستثمَر في السكوت والإسكات والتَّرْك واللامبالاة. وقد تحوَّل الحُلْم، ونحن نخلِّد ذكراه الرابعة والستين، من بناء المستقبل واللحاق بركب الحداثة إلى مجرد الحفاظ على ما تبقى من كيان سلطوي هش. 

 

إنها لحظةٌ خطرة قاتمة يخلو فيها البلد من مشروع يجمع الناس، أو رؤية تبعث الأمل، أو مؤسسة تعترض وتقف في وجه الاندثار، كأننا أمام بيت مهجور يرجى سقوطه بعدما تآكلت جدرانه وانهارت أَسقُفه.

 

مَلهاةٌ مستمرة يراقص فيها النهب التملقَ والوهم. أبطالُها حَفنةٌ من المستفيدين، و"كُومْبارْسُها” الأطر والوجهاء، وضحاياها أغلبية مسحوقة وطبقة وسطى تهان ويُهَجَّر أبناؤها. 

هنالك، وعلى أنغام الصخب وأوزانِ المال الفاسد والمالِ المجنون، يخفت كل صوت للعقل وتتوارى الضمائر ويتجمد الوعي، فيما تنسحب النخبة من تاريخ البلد ودوائر التأثير ناجيةً بنفسها نجاةَ الحارث ابن هشام! 

 

فأيُّ عظمة في هذا وأيُّ مجد؟ وأيُّ مسؤولية وراحةُ ضمير؟ 

 

أليس لدى موريتانيا من المشكلات البنيوية والوظيفية، ومن الأزمات الداخلية والخارجية، ما يستحق عناءً ممَّن يديرونها ومجهودا ممَّن ينتمون إليها؟ ألم يصبح لدينا من المقدَّرات البشرية والاقتصادية ما يغري ويلهم؟ 

 

بلى، ولكن السلطة التي لا تحكم، تُفْرِغ. تبحث عن كل بقية أمل لتقضي عليها. وللأنظمة السياسية عموما قدرة فائقة على نشر عدواها في أرجاء الدولة وأوساط المجتمع، عدميةً كانت أو بنائية. فلا تَعْجَبْ، والقاعدة هذه، إن لم تجد أكثرُ الأرواح شغفا بالمغامرة ورغبة في المشاركة ما تعارضه أو تؤيده، قرارا كان أو توجها أو سردية. 

 

لم يكتف هذا العهد السياسي بمصادرة الفرص وتصفية الطموح، لكنه أمعن في تفخيخ ما سبَقه من مكتسبات وتحويلِ اللحظة الديمقراطية إلى لحظة انفجار. 

 

إن أعظم مكسب يُحسَب للجمهورية الثالثة التي نعيش اليوم في ظلها كمَن يعيش في أطلال روما، هو الصَّنْعة الديمقراطية والتعددية السياسية التي ما فتئت أنظمتنا شبهُ العسكرية تُباهِي بها الشرق والغرب. وها هو ذا المكسب اليتيم يتحول من طريق نحو التناوب السلمي على السلطة والحوكمةِ الراشدة إلى محرك للحرب الأهلية: مرشحٌ للبيضان وآخرُ للسودان. الأول يسوَّق على أنه هو مرشح النظام، والثاني محسوب على المعارضة. ولا يخفى ما في المعادلة من تغرير بالمجتمع ولعبٍ بالنار.

 

إنها المنظومة الحاكمة أو، على الأصح، جناح منها لا يحسن من فنون الحكم إلا النفخ في رماد الغرائز البدائية واستثارةَ المظالم المؤجلة التي لا يَعرف كيف يعالجها، ليصير اللون سلاحا والصوت طلقةَ نار والنتائج إعلانا للحرب. 

 

هنا في هذه الجهة فئة أقعدتها الأوهام، وفي الجهة الأخرى فئة تُضرَب في مدنها الخاصة بها وأحيائها. حتى شبكةُ الإنترنت باتت تختفي من تلك اللحظة وكأنها تخجل من أخلاقياتها. فمَن يملك، اليوم أو غدا، القدرة على نزع الفتيل؟ مَن يستطيع إعادة التوازن للسياسة الوطنية وإحياء العقل؟ 

 

لم تَسْلَم الأحزاب السياسية والسلطة التشريعية من هذا الانحراف. هل ما زلنا نتحدث عن أحزاب سياسية وسلطة تشريعية؟ إنهما اليوم مجرد بضاعة يضارِب بها سماسرة السوق السوداء لعبةً مغلقةً عليهم.

 

أما التعليم، ذلك الأمل الأخير لصناعة الإنسان، وأهم مكاسب الجمهورية الأولى، بل هو أهم مكاسب الدولة الموريتانية على الإطلاق، فإنه صار ضحية إصلاحات شعبوية مرتجلة، كأنما أُسنِد أمره إلى بروكرست الذي يكْرم ضيوفه بتقطيع أطرافهم إذا كانوا أطول من سريره، ويَمطُّها حتى تتمزق المفاصل إذا كانوا أقصر منه. إنهم كمن يهيئ جيلا مطابقا لمقاييس هذا الفراغ: بلا إبداع ولا تمرد ولا روح. 

 

فهل سمعتَ يوما بدولة ترتجل مستقبل أبنائها؟ وهل سمعتَ بها تُصلح، بجرة قلم وفي ساعات من نهار، تعليما فاسدا، من أوله إلى آخره؟ 

 

أحمد بن هارون

تصفح أيضا...