أبو عبيدة.. أمة في رجل! / د. أب ولد عمار 

ثلاثاء, 12/12/2023 - 08:36

 
اسم ضارب في عمق حضارتنا العربية الإسلامية؛ فأبو عبيدة (رضي الله عنه) أمين هذه الأمة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة وقائد جيش فتح بيت المقدس.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله عز وجل أبيّ، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح». (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني، وردت خاتمته في صحيح البخاري). 
وعليه فإن للاسم جذرا وأصولا ممتدة في عمق التاريخ المشرف للأمة العربية والإسلامية، فلم يكن اختيار الاسم - أو اللقب- عشوائيًا؛ بل كان له ما له من تذكير للأمة بالنصر، وربط حاضرها بماضيها، ووضع حد لهوانها بين الأمم؛ فهذا الرجل الذي يحمل هم أمة عجزت مجتمعة عن تحقيقه في هزائم عسكرية ونفسية لم ينقشع غبارها، إلى أن جاء طوفان الأقصى وأبلى فيه الأبطال البلاء الحسن (إنه لجهاد نصر أو استشهاد). 
وبعد ستة وستين  يوما من المعارك غير المتكافئة فإن المقاومة - رغم الجراح- لا تزال تلقن الصهاينة ومن والاهم دروسا لن ينسوها أبدا، وسيظل صوت ذلك الملثم تشرئب النفوس الحرة لسماعه فرحا وتصديقا بأقواله الموثقة بالأفعال والصور، كما أن وقع صوته أشد فتكا بأعدائه من صواريخهم وقنابلهم التي يدمرون بها الحجر والشجر، ويبيدون بها الأطفال والنساء.. في عجز واضح حتى الآن عن تحقيق أي هدف من أهدافهم المعلنة وقت الصدمة صبيحة السابع من أكتوبر؛ فلا الأسرى حُرروا، ولا حماس هُزمت، ولا السنوار قتل، أطال الله في عمره، وأبقاه غصة في صدورهم، وحفظه ومن معه من الأبطال.
وفي الوقت الذي تخوض فيه المقاومة هذه الحرب بالنيابة عن كل الأمة يقبع المجتمع الدولي في غياهب الجب والعار والأسر وراء الفيتو الأمريكي لمنع وقف الحرب المدمرة التي لم تشهد لها البشرية مثيلا؛ فمتى يتحرر العالم من الوهم  المعيش والهرولة خلف السراب، ويغير هذه القوانين الظالمة التي لا تمت للعدل بصلة؟! أما أنظمتنا العربية والإسلامية فلسان حالها يقول: (إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). 
وهنا  أود أن أشكر الحمير التي تجر العربات على مساعدتها في نقل شهداء غزة، ومشاركتها في حرب فلسطين غيرة منها واستجابة لنداء الواجب في غياب الوقود وسيارات الإسعاف؛ فلا إسرائيل أخافتها ولا أخافت أهلها، فشكرا لحمير فلسطين، وشكرا لكل شيء في فلسطين، فكل شيء هناك خارق للعادة.. حتى أنتم أيها السادة والسيدات الحمير.
فيا أبا عبيدة قد أسرت قلوب الشعوب، والأنظمة في مأزق لتحريرها، فتَرُدُّ أنت بأن منهج التعامل مع الأسري واضح؛ فالقاعدة الوحيدة هي: "إن لهم أسرى عندنا وإن عندهم أسرى لنا، ولا مجال للتحرير إلا بصفقات التبادل". وعليه فسيحرر أبو عبيدة الشعوب من أسرها بقدر ما تتحر الدول من أسر وقبضة الغرب وإملاءاته. فأمسك يا أبا عبيدة بأسراك؛ فكل الشعوب العربية والإسلامية والحرة معكم قلبا وقالبا، وفي المكان الأكثر أمنا كما قال الأخ المناضل السنوار.
إن ما يعيشه الفلسطينيون في هذه الأيام مؤلم وصعب، وظلم أولي القربى أشد وأمر.. غير أن التضحيات تكون على قدر الأهداف؛ فكان يوم السابع من أكتوبر المجيد.. و"المجيد" هنا ليست باللغة الخشبية للكلمة كما تعودنا عليها في البيان الأول للانقلابات، واحتفالات الملوك والأمراء؛ فالسابع من أكتوبر نقلنا كعرب ومسلمين من أحلام إلى حقائق، ومن هزائم عودَنا عليها أعداؤنا، وحاول قادتنا تسويقها لنا وحمْلنا على أن نتقبلها كأمر واقع ملفوف في أثواب مختلفة.. مرة في ثوب السلام، ومرة في ثوب العلاقات الدبلوماسية، ومرة في ثوب تقارب الأديان، وباءت تلك المحاولات بالفشل، إلى أن جاء اليوم المجيد وتبخرت الهزائم النفسية، فذقنا لأول مرة طعم الحياة والنصر والثأر، وجاء أبو عبيدة ليعلمنا كيف يكون الرجال في القول والفعل، وجبلت القلوب على حب ذاك الملثم، وتعلقت الأنظار بالتلفاز حين يعلن عن كلمة له. ومن المؤكد أن التعلق به ليس تملقا ولا خداعا، ولا زيفا ولا تمثيلا، ولا طلبا لمأمورية ثالثة، ولا تغييرا لمواد دستورية، وإنما إخلاصا وتعلقا بمن يصنع النصر ويعيد للأمة مجدها وكرامتها، ويحلق بها عاليا بهمم الرجال وأمل أمة تذود عن كرامتها ومقدساتها، وتُعَبِّد الطريق لمكانتها بين الأمة، حتى تحرر أرضها وأسراها، وتثخن عدوها، وتصَلّي في أقصاها، وتنظف أرضها من مغتصبيها وأعوانهم، وتقيم دولتها الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. ولهذا تكون التضحيات غالية، وإنه لجهاد.. نصر أو استشهاد.
د. أب ولد عمار 
انواكشوط
 11 /12/ 2023

تصفح أيضا...