تلك الجدران الجاثية حجارتها على الأرض، تلك المنازل العامرة بأهلها، وتلك الفارغة؛ الموصدة أبوابها بأقفال قديمة، تلك البطحاء التي تقسم المدينة إلى نصفين، تلك الشوارع التي تتسع وتضيق في عمق المدينة وأطرافها مثل دروبنا في الحياة، المليئة ترابها بآثار خطوات كثيرة محتها رياح الزمن. إنها المدينة التي أحببتها من النظرة الأولى، وفي النظرة الثانية إليها؛ شعرت بشيء غامض يقترب من الأسى، لقد رأيت الدموع تبلل أطلالها..
لأنها مدينة مقاومة ولا تبوح بأسرارها بسرعة، سألتها عندما ذاب حر القيلولة داخل ظلال المساء الرحبة: عن سبب حزنها؟ فأومأت لي ناحية قلبها، وقلب كل مدينة هو سوقها، توغلت جهة المسجد العتيق، أحمل الفضول في جيوبي حتى أشترى بعضا من أسرارها، أسرارها المختبئة داخل عيون كبار السن وشقوق البيوت.
دكاكين عتيقة تقاوم وعثاء التنمية، باعة صامدون يرتبون الأمل داخل رفوف محلاتهم، بائع صوتيات لم يتخلص من أشرطته القديمة بعد، بائعة كسكس أخذت مكانها، وجوه عابرة هنا وهناك، لا أعرفها ولا تعرفني، بحثت فيها عن ظلال وجه بايعه قلبي على الحب ذات يوم بارد من أيام ديسمبر تحت شجرة في كلية العلوم والتقنيات، ولازال اسمه محفورا داخل ثنايا كلمات سري، التي أدخل بها صفحتي وبريدي الالكتروني كل حين. يا ليتني اهتدي لمنزلهم القديم هنا-مكان مولدها-حتى أقبض حفنة من ترابه لكي أشمها ببطء شديد جدا، فرائحة الحب القديم تشبه رائحة العطور الأصلية والنادرة، فعبيرها لا يبلى بسرعة، وشذاها لا ينسى.
بعد خطوات قليلة ذاب السوق في منازل الناس، التفت عن يميني بالصدفة رأيت لافتة تآكل طلاؤها، كتب عليها بخط أنيق " الخطوط الجوية الموريتانية "، أين المطار؟ قلت ذلك لنفسي! وأين هم سكان تلك البيوت المهجورة في أعالي المدينة، إلى أين هاجروا؟ عندها فقط، بدأت أتفهم حزن المدينة الخافت، مدينة قبل أعوام طويلة جدا كانت تهبط طائرة في مطارها كل أسبوع، أما الآن؛ فقد أصبح مطارها مهجورا، فعيون الإدارة المركزية انحرفت عنها منذ سنوات، سهوا أم عمدا لست أدري، وإن كانت عيون الإدارة زائغة عن كل مدن الداخل، فعاصمتنا تنمو ببطء شديد، أما الداخل فإنه يذبل بسرعة كقطع الحلوى في أفواه أطفاله الحالمين بغد أفضل.
شعور مرير أحسسته يعتمل في نظرات الناس، الثابتون هنا مثل باسقات النخل المتناثرة في الأفق، لم يرحلوا ويهاجروا، صامدون رغم تأخر مطر التنمية عن مدينتهم.
قادني الدليل إلى المطار المنزوي قريبا شمال المدينة جهة الأفق، كان قرص الشمس ينحدر داخل ذلك الضباب المخيم على المدينة، كان مشهدا مضمخا بالحكمة، كأنه يذكرنا بالغياب، وبأن هذه الحياة مجرد أيام معدودة.
توغلت ناحية مقبرة شهداء تحطم الطائرة، مشيت ببطء حول السياج، قرأت الاسماء المنقوشة على تلك الألواح الحجرية المسندة عليه، إنها أول مرة في حياتي أقف على قبر جماعي، طلبت لهم الرحمة ورفعت خيالي جهة السماء، تخيلت المشهد مرة أخرى، تخيلت نفسي واقفا انتظر هبوطها وهدايا الركاب وابتساماتهم، وفجأة رأيتها ترتطم بالأرض وتحترق، تألمت بشدة، رفعت بصري مرة أخرى وقرأت الاسماء من جديد، هناك اسم عندما قرأته وأخبرني الدليل بقصته، انتشر الحزن في شعاب قلبي حتى أحسسته سربا من الحمام يخرج من صدري ناحية سماء المدينة، عندها فقط؛ أدركت فعلا بأن رائحة الحب لا تختفي من قلوبنا ومهما غسلتها أمطار الغياب..
عدت وفي خيالي أبيات من مرثية أدي ولد آدب لشهداء الطائرة، حين يقول:
رَحَلـوا.. يَسْتَحِثُّهـمْ ألْـفُ شَــــوْقٍ فانْتَفَى الوَصْلُ .. حيْثُ حـانَ الوُصولُ
حَلَّقـوا .. نحْوَ أهْلهمْ .. ألْـفَ مِيـلٍ وصَلـوا .. فابْتَــدَا المَدَى يَسْتَــــــطيلُ
يا لَها .. يا لَهـا..تضـاريسَ مأساةٍ بقلـبي .. مَحْفــــــــــورِة .. لا تُـزولُ
أنا مَهْمَا نَسِيتُ ..عُمْرِي.. سَأبْقَـى مِلْءَ عَيْـنِي .. تلكَ الوُجـوهُ .. مُثـــولُ
فقدان الأحبة شعور مرير حقا...
وأنا أسير مع دليلي نخوض المدينة، سألت تلك الشوراع والبطحاء عن خطواتها، فلم تجبني، سألت جدران مكتب الحالة المدينة عن اسمها واسم صغيرها، فلا شك بأنها أصبحت أما، ربما أدرس إبنها عندما يكبر، أدرسه قانون الجاذبية، وأشرح له كيف سقط وميض ابتسامتها داخل قلبي مثل تفاحة نيوتن وأنا تحت تلك الشجرة الكبيرة ذات الأوراق المرة جدا كأوراق الحنين عندما تسقط من شجرة الغياب وتحملها رياح الزمن بعيدا عنا.
هنا تجگجه(حي الگعدة). الرياح لينة ولطيفة جدا، وظلام دامس يخيم على المدينة، تومض فيه المصابيح المتناثرة داخل البيوت وعلى الأرصفة كحبات اللؤلؤ، صمت مطبق لا تكسره سوى مدائح بعيدة، وأصوات متقطعة؛ تمتزج فيها همسات الناس وصوت الماعز ونباح الكلاب وهدير محرك السيارات العابرة بحفيف الأشجار، ولا شيء هنا يضاهي في عذوبته، من أن تستيقظ ظمآنا في لحظة من هزيع الليل، وتذهب " للبيدون المجلد " وتملأ منه قدحا بالماء البارد وتشربه وتعود للنوم..
الساعة 00:07 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
صفحة المدون : Khaled Elvadhel