عندما تتعصب لفكرتك تفقد فرصة ثمينة للاستفادة من فكرة أخيك، وفرصة أخرى أثمن لمراجعة فكرتك لعل أخاك يكون هو المحق، فالحقيقة إذا كانت مطلقة فإن إدراكك لها نسبي في أغلب الأحوال، لأن الإدراك المطلق للحقائق المطلقة خاص بالضروريات، وإذا كانت نسبية فلا يمكن أن يكون إدراكك لها إلا نسبيا، ويقينك بشأن فكرتك قد يكون صحيحا، لكنها لا تتحول إلى فكرة فعالة إلا إذا نجحت أنت في اكتساب الآخرين لها، أو نجحوا هم في التوصل إليها كما توصلت أنت إليها.
وكل هذا الجهد الفكري والعقلي الذي تتطلبه كل حقيقة على حدة لا بد أن يتسبب في اختلاف واسع بين البشر، لأن كل حقيقة أم يتولد عنها عدد لا متناه من الحقائق الجزئية، وتأليف هذه الحقائق في ما بينها يولد بدوره حقائق جزئية جديدة في ذهن المفكر أو المتلقي الذي بدوره ينتج بمجرد الإمعان فيها حقائق حزئية جديدة، تتناسل كما يتناسل البشر.. ووظيفة العقل الأساسية -أو من وظائفه الأساسية- ترتيب هذه الحقائق الجزئية المختلفة وتسييرها تسييرا مثمرا لا رفع الاختلاف عنها لأن ذلك مستحيل، فطريقة إنتاجنا لأفكارنا تغرس فينا تلقائيا أسس اختلافنا، فإما ألا نفكر وإما أن نختلف.
فإذا نجح عقل فرد في ترتيب الحقائق الجزئية المختلفة وتسييرها، ونجح فيه عقل فرد ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وسابع... إلى آخره تولد من ذلك عقل جمعي وظيفته هو الآخر تسيير هذه الحقائق المختلفة الكثيرة بطريقة لا تتصادم بها، بناء على أن صاحب كل فكرة فردية يعي بأن حقيقته نسبية أو من المحتمل أن تكون كذلك، كما يعي أن تعامل الآخر معها نسبي أو من المحتمل أن يكون كذلك، فله الحق في الاختلاف معها بحيث ينتج أفكارا مغايرة أو مضادة لها، وهذه الأفكار تتصارع في المطلق، وتصارعها يولد حقائق جديدة تتصارع بدورها في المطلق بصورة لا متناهية وإلى ما لا نهاية، والعقل الفردي يستهلك منها ما يشاء، أما العقل الجمعي فيستهلك دائما أفضلها..
لكن ماذا يقع لو أراد الأفراد أن يتدخلوا في هذا الصراع الحر للأفكار والحقائق عن طريق جعل حقائقهم النسبية حقائق مطلقة، أو عن طريق جعل نظرتهم النسبية للحقائق المطلقة مطلقة؟
هنا تشتبك أجساد البشر وتدخل في صراع لا حق لها فيه وليس من وظيفته لأنه من وظيفة أفكارها، ويقوم كل فرد أو كل جماعة بالاعتداء على حرية تفكير واعتقاد الفرد الآخر أو الجماعة الأخرى، ليجبره أو يجبرها على أن يعتنق أو تعتنق معه ما يعتقده ويؤمن بأنه حقائق مطلقة. وكلما قتل شخص أو أجبر على التسليم بأفكار غيره خسر العالم حقائق لا متناهية ربما كان في الإمكان أن تقود إلى حضارات أكثر تطورا بكثير مما نشهده الآن، فعالم الحضارة الإنسانية لا يقاس بعدد ما ينجب من الأفراد لأن تلك وظيفة العالم البهيمي، بل بعدد ما ينجب من الأفكار.
هذه توطئة أردت بها التهيئة للدعوة إلى إعادة نسقنا الفكري إلى وضع صحي يسمح لنا بأن نعترف ونقبل باختلافاتنا كي نتمكن من مواصلة التفكير وإنتاج الحقائق بدون عوائق أو إكراه، في مناخ لا وصاية فيه على أحد حتى يمكن كل منا من الاستفادة مما عند أخيه من الأفكار..
على المستوى الديني كثيرا ما حاولت نشر مثل هذه الروح في الأمة وما زلت أحاول لإدراكي أن مشكلتنا اليوم ليست في تباين مذاهبنا الإسلامية وتعددها بل في أن أضيق الرؤى في هذه المذاهب هي التي تسيطر اليوم، فالتاريخ الذي نعيشه منذ فترة تصنعه الأفكار الأبعد عن الوسطية سواء بين أهل السنة في ما بينهم أو بينهم وبين الشيعة، والنتيجة طبعا إذا لم ننتج طوفانا من الأفكار المعتدلة تغرق فيه الأفكار المتطرفة التي تقودنا الآن هي مزيد من تطاحن هذه الأمة التي وإن نجحت في عدم الاختلاف في التوحيد المطلق لله تعالى فلم تقل بالتثنية ولا بالتثليث كما فعل اليهود والنصارى فقد أخفقت في وضع حدود واضحة للمقبول من الاختلاف وعدم المقبول منه، بحيث ضاقت في هذا العصر إلى أبعد الحدود دائرة المقبول منه مقابل عدم المقبول بسبب كثرة الجهل إذ العلم كلمة والجهل جملة.
وفي محاولة لجمع الطوائف الإسلامية البارزة اليوم على كلمة سواء قلت قبل مدة:
إن قال شخص قد أسا بما كتب
سليل تيمية فالزم الأدب
وهكذا تلميذه ابن القيم
فكم لذين من كتاب قيم
وهكذا البوصيري وابن العربي
الحاتمي اذكرهما بأدب
فإن يقل شخص بدا لي كفر
هذين قل مخالفوك كثر
وإن يقل حاد عن الصواب
محمد بن عابد الوهاب
فقل إمام من أئمة الهدى
بلغ بالتوحيد أعظم مدى
وإن يسئ لأحمد التجاني
مستند إلى كتاب الجاني
فقل أحيلك إلى ما كتبا
في سيله الجارف بعض النجبا
وحسن البنا إذا ما ذكره
بالسوء شخص لا تصدق خبره
وقل فتى جاهد في الله وقد
ضحى بنفسه فليس ينتقد
وهكذا الدعاة إن نقل عن
طريقهم أشيا بها فيهم طعن
فقل رجال عمروا المساجدا
ولن أذم راكعا أو ساجدا...
أليسوا كلهم مسلمين تجب محبتهم وتوقيرهم، وتنبيههم إلى ما أخطأوا فيه برفق واحترام، كما تقتضي مقتضيات العقل الأخلاقية، وكما تقتضي تعاليم الدين الإسلامي الحنيف؟
من صفحة الأستاذ الحسين بن محنض على الفيسبوك