مؤشر سوق الحرب على الفساد / البكاي ولد عبد المالك ـ وزير سابق

ثلاثاء, 18/08/2020 - 11:17

 

عندما بدأت السلطات الموريتانية في عهد الرئيس السابق أسابيع قليلة قبل انتخابات يونيو 2019 حملة على الفساد في الوقت بدل الضائع نبهنا حينها إلى أن وقت الحرب على الفساد لم يحن بعد، لإدراكنا بأن الغرض من تلك الحملة هو فقط الحصول على براءة ذمة وشهادة حسن سلوك للنظام وللرئيس المنصرف وكأن لسان حالهما يقول: بأننا كنا نحارب الفساد إلى آخر يوم!!

نعم لقد كان المقصود من تلك الحملة ذر الرماد في العيون، وتوزيع تهم الفساد "الصغير" لأجل التغطية على الفساد الكبير فليس من المعقول- لدى صغار العقول طبعا- أن تنهى عن خلق وتأتي مثله...!! لذلك كانت دعوتنا في ذلك الحين إلى أن الحرب على الفساد لم يحن وقتها بعد، بل ذهبت إلى أكثر من ذلك عندما صرحت في إحدى القنوات الدولية عشية التنصيب إلى أن التغاضي عن الفساد والمفسدين إذا كان هو الثمن الذي يتعين على ديمقراطيتنا أن تدفعه لكي يحصل التراكم الضروري والمناعة ضد الأمراض والأزمات، فلا بأس من دفعه، ومع ذلك لا أجدني بحاجة إلى التنبيه إلى النفس السياسي الذي حمله ذلك التصريح حينها.

لقد كان واضحا لنا في تلك المرحلة الحساسة التي امتزجت فيها مشاعر "الخوف" و"الطمع" السياسييْن: الخوف من تحقق الغرائز الدفينة، الحقيقية لكن غير المصرح بها، من حدوث مأمورية ثالثة كانت قاب قوسين أو أدنى؛ والطمع في تحقق تناوب سلمي على السلطة يضع حدا للأزمات المصطنعة ويجعل المجموعة الوطنية كلها صفا واحدا في مواجهة المشكلات الحقيقية للبلد مثل الوحدة الوطنية والتنمية والعدالة التوزيعية وتعزيز الديمقراطية إلخ..؛ كان واضحا لنا وجود إرادة واعية للتشبث بالسلطة بطريقة ذكية، لم تكن بديهية لدى أقرب المقربين، ولا متوقعة لدى الكثيرين من خلال الإعداد الجيد لسيناريوهات ثلاثة للقتل البطيء:

1- تفليس الدولة ونهب خزائنها وإيصالها إلى حافة الإفلاس مع ما يتضمنه ذلك من خلع للشرعية عن النظام الناشئ محليا في عيون الشعب وفي عيون الطبقة السياسية، ودوليا لدى الشركاء الدوليين، ولتكون هذه الخطوة - المهمة جدا وربما الحاسمة في إطار لعبة القتل البطيء- مقدمة لخطوات تالية أكثر حسما؛ ومعلوم أن الاقتصاد بالنسبة للدولة هو شريان الحياة، ومن يستهدفه يستهدف بقاء الدولة كنظام واستمراريتها

2- فتح حوار اجتماعي في الوقت بدل الضائع مع منظمات وزعامات طالما اعتبرها نظام الرئيس السابق من أشد أعداء الوطن، لإعادة شحن بطارياتها، والإمعان في تأزيم الوضع الاجتماعي وإشعال النار من تحت أقدام السلطة المنبثقة من الانتخابات المزمعة

3- كتيبة برلمانية متأهبة لنزع الثقة عن النظام بعد الانهيار الاقتصادي وتصاعد وتيرة الغليان الاجتماعي، وهما في الواقع سببان كافيان لسحب الثقة من الحكومة كإجراء "ديمقراطي" طبيعي ناجم عن عجز الحكومة في تسيير الشؤون العامة وتوفير الأمن، ولا يبقى الحسم العسكري بعدئذ مشكلة لا في الداخل ولا في الخارج.

ولا يعني ذلك التنقيص من قدر البرلمانيين (الغرفة السفلى): "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، بل أشير هنا إلى أن حل الغرفة الأولى وتسوية مقرها بالأرض، مؤشر جيد على ما أسميناه بالإرادة الواعية للتشبث بالسلطة وإزالة كافة العراقيل والعقبات التي تحول دون ذلك أيا تكن، من البشر أو الحجر.

وبغض النظر عن إدراك القلة من النخبة وممن لديهم مقاليد الأمور لحلقات هذا السيناريو متعدد الأبعاد في وقت مبكر، فقد ساعدت العناية الإلهية وبعض الأخطاء البشرية في إفشاله وفي مقدمتها سلوك الرئيس المنصرف نفسه وعجزه - بداية - عن نقل مكنوناته بصفة واضحة وصريحة إلى المقربين منه في الوقت المناسب، وفي مرحلة لاحقة وحاسمة، بسبب ثقته المفرطة في البطانة التي أحاط بها نفسه خلال المأمورية الثانية.

الآن وبعد أن تمكن النظام الحالي بقيادة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني - بمعية جنود مجهولين- من كسب معظم الجولات بالضربة القاضية، أصبحنا أكثر أمانا وأكثر ثقة في المستقبل.

والحال أن البلد لم يكن خلال تاريخه في مرحلة أقوى من هذه المرحلة ولا في مرحلة أضعف وأكثر هشاشة وخطورة منها في الآن نفسه...؟!

نعم لم نكن في ما مضى في وضع أقوى من الآن، لأن الإجماع الحاصل في الوقت الحالي - بغض النظر عن الأسئلة المعلقة والانتظارات الكثيرة- هو مصدر قوة لاتخاذ قرارات جريئة ولحسم مسائل كثيرة لم يكن في الإمكان حسمها قبل الآن بسبب أخطاء البشر وسوء الحكامة

ولم نكن في وضع أضعف من الوضع الذي نعيشه الآن بسبب تعذر تكرار التجربة في حالة الفشل، وقد تندم النخبة على ضياع الفرصة، فالفرص في سياق مثل سياقنا لا تحصل كل يوم.

تصفح أيضا...