صلاة الأطباء المرابطين في المستشفيات لإنقاذ الأرواح
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سادتي الأجلاء
وقعت نازلة في بلدنا بسبب انتشار كورونا نسأل الله العافية وهي : أن الأطباء والممرضين الذين يواجهون ضحايا كرونا في المستشفيات يلزمهم لبس ثوب خاص يستر جميع بدنهم حتى الوجه من أجل الحماية من العدوى ولا يجوز لهم خلع هذا الثوب خلال ثمان ساعات لأن هذا الثوب إذا تم خلعه يطرح مباشرة ولا يجوز لبسه مرة ثانية وسعر هذا الثوب ليس برخيص وعدده محدود مع شدة الحاجة إليه في مثل هذه الحالة.
والمشكلة تكمن بالنسبة للصلاة والطهارة بهذا الثوب
إذا كان موعد العمل يمكنهم من جمع الصلاتين تقديما أو تأخيرا فبإمكاننا جعل جمع الصلاتين في الحضر مخرجا من هذه المشكلة بناء على قول من جوزه عند شدة الحاجة
لكن المشكلة لمن كان موعد عمله لا يمكنه من الجمع بأن شرع في العمل ساعة قبل الظهر وينتهي ساعة بعد المغرب
أو بدأ في العمل قبل الصبح بساعتين وينتهي بعده بست ساعات
السؤال :
هذه الصورة الأخيرة هل يمكن إلحاقها بفاقد الطهورين ؟ أو يلزمه خلع هذا الثوب من أجل الطهارة وأداء الصلاة ، وإن ترتب على ذلك خسارة مالية
هل تذكر في كتب فقائنا مسألة مشابهة لهذه المسألة سواء كانوا شافعية أو غيرهم
هل هناك قول معتبر يجيز أن تكون الجبهة غير مكشوفة في السجود؟
السائل الشيخ / محمد حنيف العطاس
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد فإن أحكام هذه الحادثة تدور حول خمس قواعد شرعية ؛ ثلاث من الكليات التي اتفقت عليها الشرائع ؛ وهن : حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ المال ، واثنتان من القواعد التي بني عليها الفقه وهما "المشقة تجلب التيسير" و "الضرر يزال" ولهذه القواعد أدلتها ، وتنبني عليها فروع كثيرة في أبواب العبادات وغيرها.
وقد يكون تفصيل الكلام في هذه النازلة يتوقف على مقدمة تتلخص في الإجابة على هذا السؤال : هل يقدم حفظ النفس على أداء الصلاة في وقتها؟
معلوم أن أداء الصلاة في وقتها من تحصيل الضروري الديني ، والمشهور عند الأصوليين في مراتب الضروري أن حفظ الدين مقدم على الضروريات الأربعة الباقية وهي النفس والعقل والنسب والمال ؛ قال السبكي في الإبهاج في شرح المنهاج (3/ 241) : وترجح الضرورية الدينية على الضرورة الدنيوية لأن ثمرتها السعادة الأخروية التي هي انجح المطالب وأروح المكاسب.هـ
وذهب بعض الأصوليين إلى تقديم حفظ النفس والمال على الضرورة الدينية ؛ قال ابن أمير حاج في التقرير والتحبير (3/ 231) : (وقيل) يقدم (المال) أي حفظه فضلا عن حفظ النفس والعقل والنسب (على) حفظ (الدين) كما حكاه غير واحد فكأن المصنف نبه بالأدنى على الأعلى بطريق أولى وقد كان الأحسن تقديم هذه الأربعة على الديني لأنها حق الآدمي وهو مبني على الضيق والمشاحة ويتضرر بفواته والديني حق الله تعالى وهو مبني على التيسير والمسامحة وهو لغناه وتعاليه لا يتضرر بفواته (ولذا) أي تقديم هذه على الديني (تترك الجمعة والجماعة) وهما دينيان (لحفظه) أي المال وهو دنيوي.هـ
والتحقيق أن تقديم الضرورة الدينية على حفظ النفس إنما تظهر ثمرته في جهاد الكفار وقتل المرتد وهما من اختصاص الإمام ولا علاقة لهما بتصرفات الناس في مصالحهم الدينية والدنيوية.
وأشار الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام (4/ 275) إلى أدلة القائلين بترجيح حفظ النفس على حفظ الدين وأجاب عنها ؛ ونصه : فإن قيل: بل ما يفضي إلى حفظ مقصود النفس أولى وأرجح، وذلك لأن مقصود الدين حق الله تعالى ومقصود غيره حق للآدمي، وحق الآدمي مرجح على حقوق الله تعالى لأنها مبنية على الشح والمضايقة، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة من جهة أن الله تعالى لا يتضرر بفوات حقه، فالمحافظة عليه أولى من المحافظة على حق لا يتضرر مستحقه بفواته، ولهذا رجحنا حقوق الآدمي على حق الله تعالى بدليل أنه لو ازدحم حق الله تعالى وحق الآدمي في محل واحد، وضاق عن استيفائهما بأن يكون قد كفر وقتل عمدا عدوانا نقتله قصاصا لا بكفره.
وأيضا رجحنا مصلحة النفس على مصلحة الدين، حيث خففنا عن المسافر بإسقاط الركعتين وأداء الصوم، وعن المريض بترك الصلاة قائما وترك أداء الصوم، وقدمنا مصلحة النفس على مصلحة الصلاة في صورة إنجاء الغريق، وأبلغ من ذلك أنا رجحنا مصلحة المال على مصلحة الدين حيث جوزنا ترك الجمعة والجماعة ضرورة حفظ أدنى شيء من المال، ورجحنا مصالح المسلمين المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم على مصلحة الدين حتى عصمنا دمه وماله مع وجود الكفر المبيح.
قلنا: أما النفس فكما هي متعلق حق الآدمي بالنظر إلى بعض الأحكام، فهي متعلق حق الله تعالى بالنظر إلى أحكام أخر، ولهذا يحرم عليه قتل نفسه والتصرف بما يفضي إلى تفويتها، فالتقديم إنما هو لمتعلق الحقين ولا يمتنع تقديم حق الله وحق الآدمي على ما تمحض حقا لله.
كيف وأن مقصود الدين متحقق بأصل شرعية القتل وقد تحقق، والقتل إنما هو لتحقيق الوعيد به، والمقصود بالقصاص إنما هو التشفي والانتقام، ولا يحصل ذلك للوارث بشرع القتل دون القتل بالفعل على ما يشهد به العرف، فكان الجمع بين الحقين أولى من تضييع أحدهما.
كيف وأن تقديم حق الآدمي هاهنا لا يفضي إلى تفويت حق الله فيما يتعلق بالعقوبة البدنية مطلقا؛ لبقاء العقوبة الأخروية، وتقديم حق الله مما يفضي إلى فوات حق الآدمي من العقوبات البدنية مطلقا، فكان ذلك أولى.
وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديما لمقصود النفس على مقصود أصل الدين بل على فروعه، وفروع أصل غير أصل الشيء، ثم وإن كان فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر، وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة إلى صلاته قائما وهو صحيح، فالمقصود لا يختلف.
وأما أداء الصوم فلأنه لا يفوت مطلقا، بل يفوت إلى خلف وهو القضاء، وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وترك الجمعة والجماعة لحفظ المال أيضا.هـ
ونبه القرافي في الفروق (2/ 332) إلى أن تقديم هذه الحقوق الدنيوية من باب تقديم الفوري وما يخشى فواته على غيره وإن كان أعلى منه مرتبة ؛ حيث قال في الفرق التاسع بعد المائة في الكلام على تعارض الحقوق: يقدم ما يخشى فواته على ما لا يخشى فواته وإن كان أعلى رتبة منه ؛ كما تقدم حكاية قول المؤذن على قراءة القرآن لأن قراءة القرآن لا تفوت وحكاية قول المؤذن تفوت بالفراغ من الأذان ، وكذلك يقدم صون الأموال على العبادات إذا خرجت عن العادة كتقديم صون المال في شراء الماء للوضوء والغسل على الوضوء والغسل وينتقل للتيمم ، وكتقديمه على الحج إذا أفرطت الغرامات في الطرقات.
ويقدم صون النفوس والأعضاء والمنافع على العبادات فيقدم إنقاذ الغريق والحريق ونحوهما على الصلاة إذا كان فيها أو خارجا عنها وخشي فوات وقتها ؛ فيفوِّتها ويصون ما تعين صونه من ذلك ، وكذلك يقدم صون مال الغير على الصلاة إذا خشي فواته وهو من باب تقديم حق العبد على حق الله تعالى وهي مسألة خلاف فمنهم من يقول حق الله يقدم لأن حق العبد يقبل الإسقاط بالمحاللة والمسامحة دون حق الله تعالى ومنهم من يقول حق العبد مقدم بدليل ترك الطهارات والعبادات إذا عارضها ضرر العبد.هـ المراد منه.
ولا شك أن الترجيح إنما يحتاج إليه عند التعارض وعدم إمكان الجمع ،والمفهوم من السؤال أن التعارض حاصل والجمع غير ممكن ، لأن حال هؤلاء الأطباء لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يخرجوا الصلاة عن وقتها جملة أو عن وقتها المختار ، وإما أن يعرضوا أنفسهم للخطر الذي قد يؤدي إلى التلف مع إضاعة المال.
وقد رأينا أن من الأصوليين من يرى تقديم حفظ النفس والمال على الضرورة الدينية ، وأن من منع ذلك لم يخالف في الفروع التي بنى القائلون بتقديم حفظ النفس قولهم على أساسها. وإنما بين المعنى الذي من أجله قدِّمتْ.
وفي كتب الفقه ما يفيد تقديم حفظ النفس والمال على أداء الصلاة في وقتها ، ومن أمثلة تقديم الإنسان حفظ نفسه وماله على أداء الوقت مسألة ذهاب الدابة التي أشار إليها الشيخ خليل في المختصر بقوله أو ذهاب دابته ؛قال ابن رشد في البيان والتحصيل (2/ 114) : في مسألة الذي نزل عن فرسه فأفلت منه فاتبعه حتى أخذه ورجع إلى مصلاه : وهذا هو قول مالك في المدونة أنه يقطع ويبتدئ- إن بعدت عنه دابته- قداما، أو يمينا أو شمالا، أو صارت خلفه، وهذا إذا كان في سعة من الوقت، وأما إذا كان في خناق (منه) فإنه يتمادى على صلاته- وإن ذهبت دابته، ما لم يكن في مفازة، ويخاف على نفسه إن ترك دابته حتى يصلي. هـ ونقله الحطاب في مواهب الجليل (2/ 306)
وفي شرح عبد الباقي (1/442) ناقلا عن المسائل الملقوطة: وتبطل الصلاة إذا وجب أكله أو شربه لإنقاذ نفسه، ووجب عليه القطع ولو خشي خروج الوقت. هـ
ومن أمثلة تقديم حفظ نفس الغير على أداء الصلاة في وقتها مسألة وجوب الكلام في الصلاة لإنقاذ الأعمى مع بطلانها بذلك ، ولو ضاق الوقت ؛ ففي شرح الزرقاني للمختصر : (1/ 442) عند الكلام على مبطلات الصلاة (أو وجب) الكلام (لإنقاذ أعمى) فتبطل ضاق الوقت أو اتسع على المشهور.هـ
ومقابل المشهور قول اللخمي أنه إن ضاق الوقت يتكلم ولا تبطل صلاته ، ونص كلامه في التبصرة (1/ 393) :وعامد تكلم لإنقاذ مسلم؛ لئلا يقع في مهلكة، أو ما أشبه ذلك - فذلك واجب عليه، ويستأنف الصلاة؛ لأنه لم يتكلم لإصلاح صلاته إلا أن يكون في خناق من الوقت فلا تبطل ويكون كالمسايف في الحرب؛ لأن هذا تكلم لإحياء نفس .هـ
وتعقبه المازري في شرح التلقين (1/ 654) قائلا : وفي هذا التشبيه نظر. لأن المسايف لا يبطل كلامه الصلاة إذا اضطر إليه. ولو أوقع الصلاة في أول الوقت. والمصلي الرائي للأعمى يبطل كلامه الصلاة إذا لم يكن في خناق من الوقت مع اشتراكهما في كون الكلام تتساوى الحاجة إليه في أول الوقت وآخره.هـ
ومن الفروع الحنفية في درر الحكام(١٢٤/١) ويجوز تأخير الصلاة عن وقتها لعذر كما قال الولوالجي القابلة إذا خافت موت الولد لا بأس بأن تؤخرها وتقبل على الولد لأن تأخير الصلاة عن الوقت يجوز بعذر ،ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة عن وقتها يوم الخندق، وكذا المسافر إذا خاف من اللصوص وقطاع الطريق جاز له تأخير الوقتية .انتهى
ففي هذه المسائل ما يدل على تقديم حفظ النفس على أداء الصلاة في وقتها، سواء كانت نفس المصلي أو نفس غيره.
أما إخراج الصلاة عن وقتها الاختياري ، وجمعها مع مشاركتها في الوقت ، فهو جائز لما هو دون الخوف على النفس من المشقة كالجمع للمطر أو المرض أو طين مع ظلمة أو للسفر ، أو الخوف عند أكثر العلماء ، كما هو معلوم ، وقيل يجوز لغير عذر من الأعذار المذكورة ؛ قال ابن رشد في المقدمات (1/ 186) : اتفق مالك وجميع أصحابه على إباحة الجمع بين الصلاتين المشتركتي الوقت لعذر السفر والمرض والمطر في الجملة، على الاختلاف بينهم في ذلك على التفصيل. واختلفوا في إباحة الجمع بينهما لغير عذر، فالمشهور أن ذلك لا يجوز، وقال أشهب: ذلك جائز على ظاهر حديث ابن عباس وغيره.هـ
قال الحطاب بعد نقله : ونقله ابن فرحون ، وقال في الطراز من صلى العصر قبل القامة لا يجزئه على المشهور وهو المعروف من قول جماعة الناس ، وقال أشهب في المجموعة أرجو لمن صلى العصر قبل القامة والعشاء قبل الشفق أن يكون قد صلى، وإن كان لغير عذر.هـ مواهب الجليل (1/ 391)
قال المازري في شرح التلقين : (1/ 829) : فإن جمع جامع اختيارًا فهل تصح الصلاة أم لا؟ في المجموعة قولان :ذكر عن ابن القاسم فيمن جمع بين العشاءين في الحضر من غير مرض أنه يعيد الثانية أبدًا. قال أبو محمَّد يريد أنه صلاها قبل مغيب الشفق. وذكر عن أشهب فيمن صلى العصر قبل القامة والعشاء قبل مغيب الشفق أرجو أن تكون صلاته صلاة.هـ
وحديث ابن عباس الذي استدل به أشهب هو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف، ولا مطر» في حديث وكيع: قال: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: «كي لا يحرج أمته»، وفي حديث أبي معاوية: قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: «أراد أن لا يحرج أمته»
قال ابن المنذر في الأوسط (2/ 433) : ولو كان ثم مطر من أجله جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره ابن عباس عن السبب الذي جمع بينهما، فلما لم يذكره وأخبر بأنه أراد أن لا يحرج أمته دل على أن جمعه كان في غير حال المطر.هـ
هذا عن ما يتعلق بتقديم حفظ النفس على أداء الصلاة في الوقت.
قول السائل : "هذه الصورة الأخيرة هل يمكن إلحاقها بفاقد الطهورين ؟ أو يلزمه خلع هذا الثوب من أجل الطهارة وأداء الصلاة ، وإن ترتب على ذلك خسارة مالية هل تذكر في كتب فقائنا مسألة مشابهة لهذه المسألة سواء كانوا شافعية أو غيرهم "
أما إلحاق الصورة بمسألة فاقد الطهورين فالكلام فيها يتوقف على أمور منها:
هل هذا اللباس ضروري للأطباء في جميع أوقات عملهم أولا؟
إذا كان ضروريا فهل يتنزل منزلة الجبيرة أولا؟
وإذا نزلناه منزلة الجبيرة فهل يصح التيمم فوق حائل يستر جميع الأعضاء أو لا؟
أما كون اللباس ضروريا في أوقات العمل فالمرجع فيه إلى أهل الاختصاص ، وإذا قالوا إنه ضروري ، فالظاهر أنه يتنزل منزلة الجبيرة ، كما قال الفقهاء في الخف الذي تعذر نزعه ؛ ففي المختصر وشرحه لعبد الباقي : (1/ 200) : (وإن) لبسه بشروطه ثم (نزع رجلًا وعسرت الأخرى) أي عسر نزع رجله الأخرى من الفردة الأخرى وضاق (الوقت) الذي هو فيه (ففي تيممه) مطلقًا ولا يمزقه ولو قلت قيمته والفرق بني هذا وبين قوله فيما يأتي ولم يضر غسله وإلا ففرضه التيمم حيث لم يجعل له الانتقال مع القدرة على الغسل حفظ المال في مسألة الخف (أو مسحه عليه) أي على ما عسر وغسل الرجل الأخرى قياسًا على الجبيرة بجامع تعذر المسح على ما تحت الحائل, (أو إن كثرت قيمته) مسح كالجبيرة (وإلا تكثر مزق)هـ
وقد اجتمع في اللباس المذكور تعذر الخلع خوف الضرر ، وكثرة القيمة كما في نص السؤال.
وإذا سلم قياسه على الجبيرة فهل يصح المسح على ما يستر جميع أعضاء الطهارة ،أولا؟
أما بالنسبة للطهارة المائية فلا ؛ ولذا قال خليل في شرط المسح :"إن صح جل جسده أو أقله ولم يضر غسله وإلا ففرضه التيمم.كأن قل جدا."
وأما في التيمم فقد نص الفقهاء الشافعية على أن الساتر إن عم الأعضاء فحكم صاحبها حكم فاقد الماء والصعيد ؛ قال الشيخ زكريا في أسنى المطالب (1/ 82) : لو عمت العلة أعضاء وضوئه وعلى كل عضو ساتر عمه فإن تمكن من رفع الساتر عن وجهه ويديه وجب عليه لأجل تيممه وإلا لم يجب عليه التيمم ويصلي كفاقد الطهورين ثم يقضي لكنه يسن خروجا من خلاف من أوجبه. هـ
وقد اختلف فقهاء المالكية في صحة التيمم مع الحائل ؛ قال الأمير في شرح المجموع (1/ 258) : وهل يصح التيمم من فوق حائل كما في شرح عبد الباقي وغيره أو لا كما صدر به الحطاب عن السبوري، فيكون كفاقد الماء والصعيد ؟ الظاهر الأول . هـ
ونص المسألة في حاشية الحطاب : مسألة: وسئل السيوري عمن لدغته عقرب وهو في كرب منها وحضر وقت الصلاة، ولا قدرة له على التيمم ويجد من ييممه من فوق الثوب. فأجاب: التيمم من فوق الثوب لا يجوز، فإن خاف مرضا، أو زيادته في خروج يده فهو بمنزلة من فقد الماء والتراب فقيل: يصلي ويقضي، وقيل: يصلي خاصة، وقيل: يقضي خاصة والأصح أن لا يفعل شيئا من الأمرين؛ لأن الحائض لا تصلي مطلقا، وإنما فقدت الطهارة، وقد صلى بعض الصحابة بغير طهارة قبل نزول آية التيمم بغير علم النبي - صلى الله عليه وسلم - في قضية طلب العقد فأنزل الله آية التيمم فحصل أن لا صلاة إلا بطهارة بالكتاب والسنة.
(قلت) وعلى ما نقل أبو عمران في التعاليق واللخمي عن القابسي أنه يومئ المربوط بيديه ووجهه إلى الأرض للتيمم يمسح هنا على الثياب من باب أحرى وقياسا على العضو المألوم في الوضوء، انتهى.
من البرزلي وانظر ما ذكر عن السيوري فيمن لدغته عقرب إلخ والظاهر أن فيه إجمالا وذلك أن من لدغته عقرب في يده أو غيرها مثلا فتارة لا يستطيع مسها إما بلا حائل، أو به وتارة يقدر على ذلك من فوق الثوب فالأول تجري فيه الأقوال التي ذكرها والثاني يجري فيه ما قاله البرزلي فتأمله، والله تعالى أعلم. مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/ 361)
وظاهر استدلال البرزلي بمذهب القابسي في المربوط أن ما حصل فيها تيمم بالإيماء ، وهو ظاهر قياسه على الإيماء للسجود ، وقول التتائي في تذييله للبيتين لمشهورين : : وللقابسي ذو الربط يومي لأرضه ..إلخ
والذي في المعيار أنه تيمم بالنية ، وقاسه على مسألة وجوب الصلاة بالنية لمن لا يقدر على غيرها ، وهذا نص كلامه : ومما يمكن أن يستأنس لقطع الصلاة للحدث بما هو منقول في مذهبنا ما حكاه اللخمي عن ابن القصار في الممهد من أن المربوط ينوي التيمم إلى الأرض بوجهه ثم بيديه حسب طاقته إنما ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: إذَا أمَرْتُكُمْ الحديث فإذا لزمه نية التيمم لم يبعد أن يلزمه نية الطهارة لأنه مما طلب منه ولم يتعذر.
لايقال: إنما طلبت للتطهير ولا تطهير.
لأنا نقول: يلزم ذلك فيما نص عليه ابن القصار. وأيضاً فظواهر نصوص أصحابنا كالرسالة والجلاب والمدونة وغير واحد أن من لم تبق له قدرة على الصلاة إلا بالقلب أنه يصلي بقلبه. وإن كان ابن بشير ومن تبعه كابن الحاجب إنما حكى ذلك عن الشافعي وقال لا نص في المذهب فإذا وجد القصد إلى الصلاة بالقلب لأنه غاية المقدور فيها لم يبعد ايجاب الطهارة بالقلب لأنها غاية المقدور فيها, ولا يسقط ذلك كونها مقصودة لغيرها, لأن ذلك الغير مطلوب كذلك أيضاً. فإذا وجبت نية الطهارة بما قال ابن القصار وذلك الايجاب إنما هو لتحصيل الصلاة بالطهارة بقدر الامكان فإيجاب الإمساك عن خروج الحدث المقدور وقطع الصلاة إن طرأ حتى يؤتى بالصلاة سالمة أولى وأحرى لظهور أثره في الخارج. ومن هذا ذكروا أيضاً في المصلي على الدابة يومىء إلى الأرض ويحسر العمامة عن جبهته والمزحوم عن الرمد في الطواف يحرك ولو كتفه, إلى غير ذلك من النظائر والله تعالى أعلم.المعيار المعرب [1 /55]
وإذا كان الواقع نية تيمم فلا يتضح الاستدلال به على مسألة التيمم فوق حائل.
مع أن المربوط مثل به ابن القصار في عيون الأدلة (3/1225) والباجي في المنتقى (1/437) لفاقد الماء والصعيد . وقال عبد الحق في النكت (1/85) إن قول القابسي بإيمائه للتيمم قياسا على الإيماء للسجود ليس بصحيح .هـ
ومما يفهم منه صحة التيمم فوق حائل قول عبد الباقي في شرح المختصر (1/ 234)عند قول خليل : وإن تعذر مسها ... : ومفهوم تعذر أنه إن أمكن مسها بالتراب تيمم عليها ولو من فوق حائل.هـ ومثله للخرشي في شرح المختصر.
لكن هذا كله ليس صريحا في أن الحائل عم جميع الأعضاء ، بل قد يفهم من قول الزرقاني في تقرير المسألة من شرحه (1/ 234): (تركها وتوضأ) وضوءًا ناقصًا ولا يتيمم ناقصًا لأن الطهارة المائية الناقصة مقدمة على الترابية الناقصة. هـ وقول العدوي في حاشية شرح الخرشي (1/ 202): (تركها وتوضأ) أي إن أمكن الوضوء وأما إن لم يمكن لفقد الماء أو لعدم القدرة على استعماله فهل تسقط عنه الصلاة أو يأتي بتيمم ناقص قال ابن فرحون يأتي بتيمم ناقص ولا تسقط عنه الصلاة.هـ أن المانع لم يستوعب الأعضاء ، إذ لو استوعب المانع أعضاء التيمم لم يتصور تيمم ناقص حتى يُحتاج لنفيه.
وفي مسألة السؤال أمر آخر ، وهو أن اللباس ساتر لليدين فلا تصح مباشرتهما للصعيد ، وهذا مانع من صحة التيمم موجب لكون صاحبه فاقدا للماء والصعيد كما وجه به الجنوي شيخ الرهوني مسألة السيوري ؛ ففي حاشية الرهوني عند الكلام على المسألة ما نصه : وقال شيخنا الجنوي ما نصه : والظاهر أن معنى مسألة السيوري إذا لم يجد من ييممه ولم يستطع هو أن يفعل ذلك إلا من فوق الثوب بأن يضرب الأرض بيده والثوب حائل بينها وبين الأرض ويمسح فوق الثوب ، فهذه الظاهر فيها ما قاله السيوري وليست كمسألة السماع , تأمله
قلت هذا الذي قال طيب الله ثراه ورضي عنه وأرضاه ظاهر معنى لكن لا يساعده كلام السيوري ؛ لأن ظاهره أنه وجد من ييممه كما في السؤال ، ومن ييممه قادر على مباشرة التراب أو نحوه بيده فلا يستقيم هذا الجواب .هـ
فالرهوني سلم المسألة من حيث المعنى ، وإنما تعقبها من جهة أن شرطها لم يتحقق وهو عدم وجود من ييممه. وهذا يقتضي أن مباشرة الصعيد باليدين شرط. وهذا مفقود في صورة السؤال.
وقد حاول الرهوني جعل مسألة السيوري غير مخالفة لمسألة سماع ابن رشد ؛ فقال :لا يسلم مخالفة السيوري للسماع ؛ لأن الجبيرة محيطة بالعضو وساترة له سترا خاصا تتحرك بحركته وتسكن بسكونه فانتقل الحكم لها وصارت كأنه نفس العضو ، وليست يد الملدوغ تحت ثوبه الملبوس له بهذه المثابة بل هو ساتر لها كستر الخباء ونحوه لما بداخله فهي بأدنى حركة يزول عنها ما كان ساترا لها وقت المسح على فرض وقوعه ويخلفه طرف آخر فيستره فليس لها ساتر مخصوص يقع عليه المسح ثم لا يزول بحال أو يزول فيرد بعينه فيعاد عليه المسح ، وقد دل السماع على أن زوال ما وقع عليه المسح مؤثر في الطهارة فهو شاهد للسيوري هـ
لكن تعقبه كنون بقوله : وفيه نظر لأنه إن أمكنه أن يجعل جبيرة على يده ويمسح عليها وجب عليه ذلك ، وإن لم يمكنه جرى فيه قول المصنف وإن تعذر مسها إلخ فكيف يصح قول السيوري تسقط عنه الصلاة ؟ وإنما يصح الجواب عنه بما ذكر لو كانت فتواه أنه لا يمسح فوق ثوبه من غير زيادة أنه تسقط عنه الصلاة فتأمله . والله أعلم.
ومما يدل على ضعف المسح على الحائل في التيمم ما ذكروا في الخاتم حيث لا تجب إجالته في الوضوء ؛ قال خليل "لا إجالة خاتمه " وذلك للعلة التي ذكر ابن رشد قال: ومثله في بعض الروايات لأبي زيد في الذي يكون في أصبعه خاتم قد عض، وهو كما قال لأنه إن كان سلسا فالماء يصل إلى ما تحته ويغسله وإن كان قد عض بأصبعه صار كالجبيرة لما أباح الشارع له من لباسه. (مواهب الجليل ١٩٦/١)
وأوجبوا نزع الخاتم مطلقا في التيمم؛ قال خليل عطفا على الواجبات "ونزع خاتمه" وقال في التوضيح(٢١٠/١) وأما الخاتم فلا خلاف أنه مطلوب نزعه ابتداء لأن التراب لا يدخل تحته وإن لم ينزعه بالمذهب أنه لا يجزئه. انتهى
فإن تقرر هذا حصل منه أن حال الأطباء هنا كحال فاقد الماء والصعيد كما هو منصوص للشافعية ، وتدل له ظواهر في المذهب المالكي. ومذهب الشافعية في هذا أنه يترك الصلاة ، ويقضيها عند زوال العذر مراعاة للقول بوجوب التيمم فوق الحائل، وهذا هو مذهب أصبغ من المالكية ، من الأقوال الأربعة أو الخمسة المشهورة في من لم يجد ماء ولا صعيدا طاهرا.
وإذا لم يسلم كون هذا اللباس بمنزلة الجبيرة بجامع التعذر فلينظر هل يتنزل صاحبه منزلة من قطعت يداه ورجلاه وبوجهه جراحة ،بجامع التعذر أيضا ، وحكمه منصوص عند الحنفية ؛ قال في الدر المختار (1/ 80) : ففي الظهيرية وغيرها : من قطعت يداه ورجلاه وبوجهه جراحة يصلي بلا وضوء ولا تيمم ولا يعيد، قال بعض الأفاضل في الأصح. هـ
ولعل قياسه على الجبيرة أقرب لاشتراكهما في جنس الساتر.
وبما مضى يحصل الجواب عن قول السائل : "هل تذكر في كتب فقائنا مسألة مشابهة لهذه المسألة سواء كانوا شافعية أو غيرهم "
أما قوله : "أو يلزمه خلع هذا الثوب من أجل الطهارة وأداء الصلاة ، وإن ترتب على ذلك خسارة مالية" فهو من فروع ترتيب الضروريات الذي تقدم الكلام فيه .
أما الشق المتعلق بالسجود مع الحائل ؛ فالسجود على الحائل غير الكثيف مكروه عند المالكية لغير عذر ؛ قال الشيخ خليل في عد المكروهات : "وسجود على كور عمامة" قال في المدونة (1/ 170) : وقال مالك: فيمن سجد على كور العمامة قال: أحب إلي أن يرفع عن بعض جبهته حتى يمس بعض جبهته الأرض. قلت له: فإن سجد على كور العمامة؟ قال: أكرهه فإن فعل فلا إعادة عليه.هـ
وقال المازري في شرح التلقين : (1/ 529) اختلف الناس في السجود على كور العمامة فمنعه الشافعي. وأجازه أبو حنيفة ومالك. واشترط ابن حبيب أن يكون الكور قليل الطاقات. وهذا فيما شد على الجبهة لا فيما برز عنها.
حتى منع من لصوقها بالأرض. فللجواز ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد على كور العمامة. وقياسًا على الركبتين والقدمين، فإن الستر فيهما جائز. وللمنع ما روي أنه نهى عن السجود على كور العمامة. وتأول بعض أصحابنا هذا على الكراهة. أو على أنه كور منع من لصوق الأنف بالأرض. وتأول الآخرون حديث الجواز على أنه فعل ذلك لعلة وعذر.هـ
وقال ابن يونس في الجامع لمسائل المدونة (2/ 518) : وقال ابن حبيب: إن كان كثيفًا أعاد في الوقت وإن مس أنفه الأرض، وإن كان قدر الطاقة والطاقتين قدر ما يتقى به برد الأرض وحرها لم يعد، قاله ابن عبد الحكم. قال الأوزاعي: وكذلك كانت عمَِّة من مضى.هـ
فإذا كان ما على الجبهة من هذا اللباس لا يتجاوز قدر الطاقتين أي التعصيبتين من العمامة فلا إشكال في صحة السجود عليه.
خلاصة
خلاصة القول أننا إذا تقرر لنا أن حفظ الأنفس مقدم على أداء الصلاة في وقتها ، وأن اللباس الذي يؤدي نزعه في بعض الأوقات لضرر بالنفس والمال لا يطلب نزعه ، وأن من على جميع أعضاء طهارته ساتر يتعذر نزعه له حكم فاقد الماء والصعيد ؛ فإن هؤلاء الأطباء يستمرون على عملهم ما دام ضروريا ويقضون الصلاة بعد زوال العذر.
كما تقرر أن هذا اللباس إذا لم يبلغ ما على الجبهة منه مبلغ تعصيبتي العمامة غير مانع من صحة السجود.
والله تعالى أعلم.