شاب تتوفى والدته من دون أن يستطيع توديعها لأنه في الحجر الصحي بسبب فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وطفل يسأل والده: "بابا، هل ستموت؟" ومتخصصون يغنون فرحا عند ظهور نتيجة سلبية بعدم حمْل شخص فيروس كورونا.
هذه بعض القصص الإنسانية المؤثرة في الحجر الصحي في بيت لحم بفلسطين.
يودع الطفل آدم (7 سنوات) والده الطبيب نبيل زواهرة، وهو يلوح بيده من أعلى السلم داخل منزلهم في بلدة تقع جنوب شرق بيت لحم (جنوب الضفة الغربية)، من دون معانقته أو الاقتراب منه، قبل أن يتجه الوالد إلى فندق أنجل في بيت جالا (غربي المدينة) لمتابعة حالات تحمل فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19).
هذا الفندق تحول إلى مكان للحجر الصحي لـ29 مصابا وآخرين يقومون برعايتهم، وكانوا خالطوهم، ولكن فحوصاتهم سلبية، أي أنهم لا يحملون الفيروس.
أجرى زواهرة، وهو رئيس الطب الوقائي في مديرية صحة بيت لحم، فحوصات مخبرية قبل يومين أظهرت عدم حمله الفيروس، رغم وجوده شبه الدائم برفقة الطبيب سامح الحوراني لمتابعة الحالة الصحية للمصابين التي ما زالت مستقرة.
كان قرارا صعبا منذ البداية، كما يقول زواهرة للجزيرة نت، "فما نقوم به أمانة وتذكرنا بقَسَم مهنة الطب في خدمة الناس في كل الظروف، واتخذنا قرار متابعة المصابين، ولكن الأمر سيؤثر على كل شيء في حياتك".
عزل الطبيب زواهرة نفسه عن أسرته، ويعيش في الطابق السفلي من منزله المكون من طابقين بعيدا عن زوجته وأولاده وأهله، قبل أن يكمل يومه التالي كاملا في الفندق لمتابعة الحالات.
يعرف أن المهمة لم تنتهِ هنا، فالمصابون ومن خالطوهم تجب متابعتهم بشكل مستمر، وستكون الأيام القادمة حاسمة من أجل نجاتهم أو تدهور صحتهم، وهو ما يعني حاجتهم للعناية الصحية أكثر.
موت مفاجئ
كيف يمكن لطبيب يتابع شخصا في الحجر الصحي بسبب كورونا؛ معزولا عن العالم الخارجي، أن يخبره بوفاة والدته فجأة؟
هذا السؤال انتاب الطبيب زواهرة عندما توفيت بشكل مفاجئ والدة شاب في العشرينيات من عمره محجور عليه من فيروس كورونا، أتى بمركبة الموتى أمام الفندق، وكان مشهدا مؤلما أن تودع أمك عن الحياة دون أن تراها في لحظاتها الأخيرة.
بدا أن للطبيب زواهرة دورا محوريا في الدعم النفسي للشاب المعزول، قابله قبل نقله إلى غرفته بعد وداعه والدته ورفع معنوياته، وحكى له قصصا كثيرة للوفاة المفاجئة، وما زال يتابع حالته النفسية والصحية يوما بعد يوم.
طبيبٌ صديق
الطبيبان زواهرة والحوراني، الشخصان الوحيدان اللذان يراهما المعزولون، ويعتبران نفسيهما أصدقاءهم وأقاربهم وكل شيء في حياتهم، صحيح أن التكنولوجيا توصلك لكل أحبابك، ولكن رؤيتهم بعينك المجردة شيء مختلف.
يتداول الطاقم الطبي، بكثير من الألم، كيف سأل طفل أحد المصابين بالقول: "بابا، بحكو إنك بدك تموت؟" فهذا الوالد المصاب يسكن قريبا من الفندق، وهو ما أثار حفيظة طفله الذي يعرف أنه قريب، ولكنه لا يستطيع العودة للمنزل، ومن كثرة الأخبار التي سمعها عن الخوف من كورونا سأله هذا السؤال الذي أثر في جميع من سمع القصة.
يتواصل زواهرة مع عيسى اشتية، رئيس قسم الأحياء الجزئية التشخيصية في مختبر الصحة العامة المركزي التابع لوزارة الصحة الفلسطينية في رام الله (وسط الضفة الغربية المحتلة)، فالأخير يجب أن يُطلع الطاقم الطبي على آخر الفحوصات المتعلقة بالمرض.
يعمل اشتية مع طاقم مكون من ستة أشخاص في المختبر، كل واحد من الطاقم المدرب جيدا في هذا المضمار يقوم بدور متسلسل وصولا إلى إخراج النتائج من المختبر المجهز بالتقنيات العالية، وفق مواصفات منظمة الصحة العالمية.
يستقبل اشتية وطاقمه منذ أن بدأ ظهور أولى عينات تحمل فيروس كورونا في فلسطين في 5 مارس/آذار الجاري ما معدله 220 عينة يوميا، أغلبها تؤخذ من أشخاص محجور عليهم من قبل طاقم طبي يعمل في كل المحافظات الفلسطينية، ولكن التركيز على بيت لحم، مركز ظهور الفيروس.
غناء في المختبر
نتائج الفحوص التي يقوم بها الطاقم تعني طريقة حياة لأصاحبها، يتأثر الطاقم كثيرا عندما تخرج عينات إيجابية (أي أنها تحمل المرض)، وفي المقابل يغنون إذا خرجت النتائج سلبية؛ فالأولى تعني حجرا صحيا على الشخص وعزله عن أهله، واحتمالية وجود مصابين جدد، وتعني عملا دؤوبا ومسؤولية أكبر على عاتق كل الطاقم الصحي، الذي سيصبح يواصل الليل بالنهار، وتعني إغلاق مناطق، وهلعا للناس.
"احمِ نفسك ثم عالج الآخرين"، هذا شعار اشتية وزملائه، فهو يرفع معنوياتهم ويشعرهم بالمسؤولية الإنسانية والوطنية الملقاة على عاتقهم، فالعمل يجب إنجازه بسرعة وبدقة عاليتين.
يجب التأكد من ضوابط العمل قبل كل ذلك، وهناك مراعاة للمسافرين الذين أمضوا سنوات طويلة في الغربة، وكبار السن والمرضى، لأنهم العرضة الأكبر للإصابة، حسب اشتية.
استأجرت وزارة الصحة غرفا فندقية للعاملين في المختبر الذي تتوجه الأنظار إليه، لا يرون أولادهم لأن العمل بحاجة لهم في كل وقت وحين، ولأنهم يجب أن يبقوا معزولين تماما عن محيطهم حتى لا يصابوا بالفيروس أو ينقلوه للآخرين.
لم يستطع اشتية وصف شعوره وزملائه العاملين بحياتهم الشخصية بالانعزال عن الأهل والأطفال خاصة، ويقول للجزيرة نت إن خشية الأهل واضحة، فنحن نتعامل مع شيء غير ملموس ولا مرئي، ولكنه قد يقلب الحياة رأسا على عقب، والعمل وسط كل هذه الظروف يجب أن يكون بوصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم" أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس".
المصدر : الجزيرة