لم أتعود على الكتابة في الشأن الداخلي الموريتاني في هذه الصفحة، مراعاةً لمقتضيات الموضوعية والإنصاف في التعرض لساحة سياسية، طبعها في الغالب الاحتقان والتأزم في السنوات الأخيرة، لكن الذكرى التاسعة والخمسين للاستقلال الوطني، والتي احتفت بها موريتانيا، يوم الخميس الماضي (28 نوفمبر)، لها دون شك مذاق خاص هذه السنة، بالنسبة لجل الموريتانيين الذين قرأوا فيها دلالة المصالحة الوطنية والسلم الأهلي.
في المراكز الأمامية من منصة الاحتفالات، حضر أحد القادة الرئيسيين للانقلاب العسكري الأول، على رئيس البلاد المؤسس المختار ولد داداه (1978)، وهو العقيد محمد خونا ولد هيدالة، الذي حكم البلاد من 1979 إلى 1984، كما حضر أول رئيس مدني منتخب، هو سيدي ولد الشيخ عبد الله، الذي مكث في السلطة عشرين شهراً، وقد اعتزل الحياة السياسية منذ خروجه من السلطة في آخر انقلاب عسكري عرفته موريتانيا (2008)، كما حضرت وجوه المعارضة البارزة، وفي مقدمتها قائدها التاريخي منذ 1991 أحمد ولد داداه.
لقد حقق رئيس موريتانيا الجديد، محمد ولد الشيخ الغزواني، ما عجزت عنه كل الأنظمة السابقة في التقريب بين الموريتانيين، ووضع أسس واعدة لإجماع وطني، لا شك أنه مطلب ضروري وعاجل لتجنيب موريتانيا مخاطر عصفت بمنطقة الجوار الإقليمي في الساحل الأفريقي، التي انهارت فيها الهياكل المؤسسية للدولة الوطنية المركزية.
الرجل الذي قاد المؤسسة العسكرية ما يزيد على عقدين، عرف عن قرب طبيعة التحديات التي أدت إلى انهيار نموذج الدولة الوطنية الساحلية، وهي في مجملها ثلاث: ضعف البناء الهيكلي للدولة، الذي جعلها عاجزة عن ضبط الجغرافية السياسية للكيان السيادي القائم، وفي مقدمة مكونات هذا البناء الهيكلي المؤسسة العسكرية، التي هي الضمانة الحقيقية لاستمرارية الدولة، أزمات الانتقال السياسي المتولدة عن الممارسات الانتخابية المختلة، التي توظف آليات المنافسة الديمقراطية في احتكار السلطة، والتحكم في المجال العمومي، وإغلاق سبل التداول السلمي على السلطة، هشاشة وضعف السياسات التنموية الإدماجية، في مجتمعات لا تزال في المراحل الأولى من التحديث الاجتماعي، بما يجعلها عرضة لظهور النزعات الإثنية والمجموعاتية المهدِّدة لقوة وتماسك مشروع الدولة الوطنية.
وعلى الرغم من خصوصيات السياق الموريتاني تاريخياً واجتماعياً، إلا أن مشروع الدولة الوطنية الحديثة ظهر في نفس المسار، الذي شهد قيام الدولة المركزية في منطقة الساحل الأفريقي، كما عرفت موريتانيا نفس التحولات، التي مرت بها هذه المنطقة من نموذج الحزب الواحد الحاكم إلى الأنظمة العسكرية إلى تجارب التعددية السياسية المتعثرة، إلا أنها سلمت من موجة الإرهاب والفتن الأهلية، التي عصفت بمنطقة الساحل في السنوات الأخيرة (مالي والنيجر وبوركينا فاسو..).
ولا شك أن لحاكم موريتانيا الحالي، دوراً لا ينكر في إعادة بناء المؤسسة العسكرية، وتأهيلها لمواجهة مخاطر العنف الراديكالي والإرهاب، خلال حقبة قيادته للجيوش الموريتانية، قبل ترشحه للسلطة، ثم انتخابه في يوليو الماضي رئيساً للجمهورية.
وإذا كان من السابق لأوانه، تقويم تجربة الرئيس الجديد في الحكم، والتي انقضت منها شهور ثلاثة فقط، إلا أنه من البديهي أن محور المشروع السياسي للرجل يتركز في هدف إعادة تأسيس الفكرة الجمهورية، التي قامت عليها السردية الوطنية الحديثة في موريتانيا، لقد عنت هذه الفكرة بالنسبة لبناة دولة الاستقلال معنيين أساسيين هما: بناء دولة مجسِّدة لهوية وطنية جامعة، على أساس وحدة النسيج الثقافي للأمة، بما يتجاوز أنماط الاختلاف والتنوع المستندة لعناصر اللغة أو اللون أو الانتماء القبلي، ووضع أسس تحديث تنموي شامل، من منظور المواطنة المتساوية والحقوق المتكافئة.
ولسنا بحاجة إلى التذكير، بأن هذه الفكرة شهدت في العقود الماضية انتكاسة قوية، سواء تعلق الأمر بالرمزية الهوياتية المشتركة، أو بطبيعة البناء المؤسسي للدولة في علاقاتها بالمجتمع. ومن هنا، ندرك طبيعة التأزم المستمر للحقل السياسي، منذ إعلان الديمقراطية التعددية 1991، باستثناء حقبة قصيرة وضعت فيها قواعد توافق سياسي، سرعان ما انهار بعد انقلاب 2008. إن إعادة بناء الفكرة الجمهورية تعني في خطاب رئيس موريتانيا الجديد: استبدال الخطاب الهوياتي الخصوصي السائد في الساحة الموريتانية بخطاب المواطنة المتكافئة، أي الهوية المفتوحة الحرة، التي ترى في نزعة المطالب الحقوقية على أساس الاصطفاف المجموعاتي تكريساً لمعادلة التفاوت والغبن بدل القضاء عليها، واستبدال نظام «السلطوية التنافسية» (أي إعادة إنتاج النظام الأحادي عن طريق الآلية الانتخابية) بنظام المشاركة المفتوحة بتحييد الإدارة العمومية في حلبة الصراع السياسي، وفتح منافذ النقاش والتشاور مع مختلف الفاعلين السياسيين.
ومن هنا الأمل الواسع، الذي دشنته في موريتانيا الإجراءات والقرارات الأولى، التي اتخذها فخامة الرئيس الغزواني لتطبيع الوضع السياسي، واكتساب ثقة النخب الوطنية الفاعلة.
في الوقت الذي تشهد فيه مناطق عديدة من العالم العربي أزمات داخلية عنيفة، ناتجة عن عوامل متداخلة، من فساد سياسي، وتطرف ديني، وتدخل خارجي، يدرك الرئيس الغزواني أن خط الحماية الحقيقي للاستقرار السياسي والأمن الأهلي، هو مسلك المصالحة الوطنية، والانفتاح على القوى الديمقراطية، في مشروع التحديث السياسي والاجتماعي، الذي يحظى بدعم واسع من الشارع الموريتاني، ومن شركاء موريتانيا الإقليميين، في محور الاعتدال العربي.