استطاعت القلة التي قرأت المرافعة الطويلة للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بعنوان "الاستشراق" (1978)، أن تفهم بهدوء ما قاله المؤلف الذي أثار الجدل في حينه ولا يزال.
ورغم مرور زمن طويل على هذا المفهوم واختلاف أهدافه التي "ساعدت تلك الخطط الاستعمارية والإمبريالية"، والتي ذهبت في اتجاه الدراسة والتحقيق والترجمة، فإن مفهوم الاستشراق لا يُمكن زحزحته بمفهومه السلبي من ذهنية المواطن العربي على أنه جزء من الاستعمار والتعالي ونهب شعوب العالم الإسلامي، قبل أن يتراجع مفهوم الاستشراق القديم لصالح استشراق معاصر أخذ فرصته المتسارعة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة.
الشخصية العقلانية
شن كتاب "الاستشراق" هجوما عنيفا على المستشرقين الذين بدوا مثل مساهمين في استعمار الدول الإسلامية ونهب ثرواتها ومنعها من التطور والتقدم، وفسّر نظرة التعالي التي كرّسها بعض المستشرقين في دراساتهم حتى من ناحية أن رجال الشرق "غير عقلانيين وضعفاء ومخنثين"، على عكس اعتبارهم الشخصية الأوروبية "عقلانية وقوية ورجولية".
بمعنى أو بآخر، تم النظر إلى المستشرقين -حتى من بعضهم- على أنهم كانوا جزءًا من تلك الحملات العسكرية والاستعمارية، أو مساهمين فيها أو مسهلين لها. ولهذا، وبعد وصف تلك الدراسات بأنها كانت مضللة، وجاءت فقط لتحقيق مطامع الغرب، تبرّأ الكثيرون من صفة "مستشرق"، مفضلين صفة "باحث إسلامي".
وهذا ما قاله بالضبط الأستاذ الجامعي الأميركي جون إسبوزيتو في أحد حواراته "لا أود أن أُسمى مستشرقًا؛ لما تحمله كلمة الاستشراق من انطباع سيئ، فادعوني باحثا إسلاميا". والمثير كذلك في هذا السياق أن المستشرق الشهير برنارد لويس يرفض وصفه بالمستشرق!
ليس هذا فحسب، بل غيّرت بعض المعاهد المتخصصة أسماءها التي كانت تتضمن كلمة الاستشراق أو الاستعمار، مثل "معهد هامبورغ الاستعماري"، إلى أسماء تختص بالدراسات الإسلامية.
الاستشراق المختلف
هناك من يرى أن الاستشراق الألماني اختلف عن بقية حالات الاستشراق في الدول الأخرى التي دفعت الاستشراق إلى خانة الاتهام والنبذ، وهو المفهوم الذي جعل الدارسين العرب يهاجمونه -حتى الآن- من دون تفصيل وتمييز.
الاستشراق الألماني -إذا جاز التعبير- لم يحظ بالدعم الحكوميّ الذي يجعله تابعا لخطط وأهداف الدولة، ولم يكن المستشرقون الألمان "موظفين استعماريين" مثلما كان الأمر بالنسبة لفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، وأميركا.. وفي الأصل، لم تستعمر ألمانيا أي دولة من دول الشرق الإسلامي، بل كانت حليفة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ودفعت ثمن ذلك التحالف سنوات من إذلال معاهدة الاستسلام.
ربما كان هذا السبب وراء عدم تطرق إدوارد سعيد للاستشراق الألماني وعدم مهاجمته له، مثلما هاجم مستشرقي بقية الدول التي اهتمت بالشرق من أجل استعماره والسيطرة عليه، ونظر إليهم كموظفين لتنفيذ الخطط الحكومية، لا مجرّد دارسين وباحثين ذوي نية علمية وبحثية حسنة.
ولا يُعتبر إدوارد سعيد أول من كتب عن الاستشراق، فقد سبقه إلى ذلك عدد من الباحثين العرب كمحمد البهي (1905-1982) وعبد اللطيف الطيباوي (1910-1981) وأنور عبد الملك (1924-2012) وعبد الله العروي (1933).
وبالإضافة إلى الترجمات الهامة من الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة (1909-1991)، يوضح كتاب "المستشرقون الألمان.. النشوء والتأثير والمصائر" للدكتور رضوان السيد بشكل دقيق ومكثف، مراحل الاستشراق الألماني وأعماله. كما يُعتبر بحق خدمة جليلة للقارئ العربي.
والسيد يوضح -قبل أن يخصص الفصل الأخير- تلك النظرة من قبل سعيد، وأن الأخير ليس على حق، وأن "السبب الذي من أجله أعرض إدوارد سعيد عن محاولة نقض الاستشراق الألماني أمر تاريخي وليس منهجيا، فقد ذهب إلى أن الألمان المستشرقين ما كانوا فاعلين أقوياء في المؤسسة"، فضلا عن أن المؤسسة ما كانت رئيسية في الحركة الاستعمارية في العالمين العربي والإسلامي. وكلا الأمرين غير صحيح أو غير دقيق".
وإضافة إلى أن الكتاب يعتبر كتاب "تراجم" وبيوغرافيا، فإنه تحليلي ونقدي يحوي الكثير من المفاجآت للقارئ عن كثرة الدراسات والدارسين الألمان، وابتعادهم -قدر المستطاع- عن الجانب السلبي الملتصق بمفهوم الاستشراق.
15 ألف مخطوطة عربية
ودفع الشوق إلى الشرق واكتشافه المستشرقين الألمان -كما بدايات كل المستشرقين والمهتمين بالتاريخ والآثار- إلى التجول والإقامة والتعلم في العديد من الدول العربية والإسلامية، وعادوا إلى ألمانيا مع علومهم الإسلامية ومع الكثير من المخطوطات العربية والإسلامية الأصلية والنادرة.
المكتبة العامة في العاصمة برلين، التي تأسست عام 1661، تحتوي قرابة 15 ألف مخطوطة عربية! وكذلك صفحات من أول نسخ من القرآن الكريم بالخط الكوفي، من بين آلاف الوثائق التي تتيحها المكتبة للمهتمين والدارسين.
هذا الكنز الأصلي الذي تحول قسم كبير منه إلى نسخ الكترونية متاحة للجمهور والطلاب، كان الأرضية الأساسية للمستشرقين ومعاهد الاستشراق، والسبب الذي دفع إلى تأسيس الجمعية الشرقية الألمانية عام 1884 في مدينة لايبزيغ.
أصل الاستشراق الاستعماري
ينبغي كذلك الاعتراف بالجهود الكبيرة لباحثين ألمان وغيرهم في ترجمة القرآن والنحو العربي ومجلدات ضخمة عن التاريخ والفلسفة والمنطق والأدب العربي/الإسلامي، وهي جهود تستحق الكثير من الامتنان لأنها ترجمت وعلقت على تلك المخطوطات وصارت متاحة للجميع، بل وتمت ترجمة العديد من تلك الأبحاث الألمانية إلى اللغة العربية فيما بعد.
وإذا وضعنا تلك الجهود جانبا، سنجد أن الاهتمام بالعالم الإسلامي وباللغة العربية بدأ منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وقبل ذلك بكثير كجزء من الحروب التي كانت تدور بين الإسلام والمسيحية.
وحتى الدراسات الاستشراقية اللاحقة كانت تذهب وراء نظرية "نقض الإسلام" في أكثر الأحيان، وإيجاد أصل له من الديانات الأخرى، وخاصة السامية والهيلينية، ووصل الأمر للنظر إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم على أنه "مهرطق يهودي"! وفق ما كتبه المستشرق اليهودي الألماني إبراهام غيغر (1810-1874)، وأخذ بهذه النظرية الاستشراق المعاصر، ولكن بشكل أيدولوجي فاقع.
استغرق الكثير من المستشرقين عملهم في "تفكيك" كلمات النص القرآني لمجرّد إثبات عدم أصالته، دون النظر إلى النص نفسه ودلالاته وعدم إيراد ما يُقابل ذلك في الديانات الأخرى، إذ بدا الأمر فعلا أنه "حرب فكرية ووجودية" متابعة للحروب الصليبية.
ليس القرآن فحسب، بل امتد ذلك إلى حقول أخرى. وكتب السيد يقول إنه "منذ منتصف القرن التاسع عشر، شاع لدى المستشرقين (الألمان على الخصوص) تقسيم التيارات الفلسفية والكلامية في الإسلام الوسيط إلى كلاسيكيين سائرين على خطى أفلاطون وأرسطو (فلاسفة الإسلام من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد)، ومحافظين (أهل السنة: الأشاعرة)، وليبراليين وأحرار فكر (المعتزلة)".
ولأنهم اعتبروا الفلسفة من موروثات الإغريق وفلاسفتهم الطبيعيين، فإن المفكرين الدينيين في الإسلام انحصروا لديهم في "المعتزلة" الذين شبهوهم بالقرّائين اليهود، و"الأشاعرة" الذين شبهوهم بالربّيين من اليهود، و"الشيعة" الذين شبهوهم بالبروتستانت لاعتقادهم في البداية أنهم منشقون عن المؤسسة الدينية السنّية"!
الأيدولوجيا والإسلام السياسي
البروفيسور الأميركي جون وانسبرو (1928-2002) صاحب كتاب "دراسات إسلامية" (1977)، هو أحد أهم ممثلي هذه المدرسة، بالإضافة إلى الدانماركية باتريشا كرون (1945-2015) والبريطاني مايكل كوك (1940) اللذين ألفا معًا كتاب "الهاجريّة" الذي يذهب إلى أن النبي "محمد كان مجرد رجل انتحل اليهودية، ولعب على عواطف اليهود ووعدهم بالعودة إلى أرض الميعاد... أي أنه كان مبتدعًا يهوديا"!
أما الفرع الثاني فقد "انفجر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، ويعنى هذا الاستشراق الجديد بالإسلام السياسي وحركات الإسلام الأصولي".
ويرى الأكاديمي المختص بتاريخ الأديان خزعل الماجدي أن الاستشراق القديم "الذي كنا نتحسس منه، وصل في مراحله الأخيرة إلى مستوى أكاديمي جيد ورصين. ومع نبذ تلك الدعوات المؤدلجة، لكنه على المستوى الفكري أصبح داخل الأكاديميات وأصبح متداولا من قبل أساتذة كبار، واقترب أن يكون علما".
لكن مع ذلك يستدرك الماجدي في لقائه مع تلفزيون سوريا أنه مع الاستشراق الجديد، "كأننا عدنا إلى المربع الأول للاستشراق في بدايته، إذ إنه يبدأ بعدوانية ويفكك الإسلام وتاريخ الإسلام بطريقة غير موضوعية، وتهجمية في الغالب، ليرمي كل مشاكل العالم على الإسلام.. نعترف بوجود مشكلة في العالم الإسلامي، ولكن لا يجوز أن نؤدلج الأمر ونتخندق ضد الإسلام بهذه الطريقة".
كراهية الإسلام
ودعم الناقد والمترجم فخري صالح هذه النظرة إلى الاستشراق الجديد من خلال ما جاء في كتابه "كراهية الإسلام"، حيث اعتبر أنه إذا كان المستشرقون في القرنين 18 و19 والنصف الأول من القرن 20، يقيمون دعاواهم ويبنون أحكامهم على الشرق من خلال قراءة آثار هذا الشرق المعرفية والعلمية واللغوية والأدبية، فإن الخبراء والدارسين من المهتمين بالمنطقة "يستندون إلى معارف ثانوية يستقونها من مصادر إعلامية، أو وصفٍ تبسيطي يتَّسم بالتسطيح وغلبة الأهداف الأيدولوجية على المعرفة العلمية والموضوعية، لأن المطلوب هو أن تقود المعرفة التي يجري تعميمُها إلى صناعة القرار وتشكيل صورة العدو وبناء تحالفات دولية للحرب على الإرهاب".
ومما يؤسف له أن مستشرقًا عارفًا بالعالمين العربي والإسلامي، وكان قد أنجز عشرات الكتب حول تاريخ الإسلام والمسلمين، تحوَّل إلى داعية ومروّج لأفكار ضحلة وتبسيطيَّة يمكن تلامذته من المحافظين الجدد استعمالُها في حملتهم لمكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية بين العرب والمسلمين، وهو ما أدى -كما نعرف- إلى كارثتي الهجوم على أفغانستان والعراق، وتدمير هذين البلدين تدميرًا تامًّا وتحويلهما دولتين فاشلتين تأكلهما الحرب المستمرة فيهما منذ الاحتلال الأميركي لهما عامي 2001 و2003، على التوالي".
إن هذ التعليقات -على سبيل المثال لا الحصر- تنطبق على مؤسسات الاستشراق الجديد الأميركية والبريطانية، ويمكن ذكر الكثير من الأسماء في هذا المجال، ولكنها لا تنطبق على الألمان. وهو سؤال لا بد من طرحه في هذا السياق: هل هناك استشراق جديد في ألمانيا؟
إن الاستشراق الجديد بمفهومه العنيف لا يعمل في ألمانيا، وإنما يتابع الباحثون دراساتهم في الجامعات والمعاهد المعروفة بالدراسات الإسلامية، التي يصدر عنها الكثير من المجلات والنشرات التي تُعنى بهذه الدراسات. والعاملون في مجال دراسات العربية والإسلام، في القديم والحديث، يبلغون اليوم حوالي المئة والخمسين.
ويرى الدكتور رضوان السيد أنّ الاستشراق الألماني "يحاول مراجعة مشكلاته والتوصل إلى الانضواء في أحد أربعة تخصصات: التاريخ، والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، وعلم الدين، والدراسات الشرق أوسطية".
وإذا رجعنا إلى ما وضعناه جانبا، فإن الباحثين الألمان قدموا تحقيقات كبيرة وترجمات وأبحاثا في مجالات كثيرة للقارئ الغربي عن المنجز الفكري الإسلامي، ومناقشة ذلك حديثا بعيداً عن الطريقة الفيلولوجية (فقه اللغة) القاسية والجامدة -إذا صح التعبير- والإبقاء على التاريخانية مع تحديثها. ومع ذلك تبدو هذه الجهود بعيدة عن الأضواء التي يحتلها الاستشراق المعاصر -الأيدولوجي والعدائي- الذي يبدو كأنه يُدرّس في المعاهد العسكرية أكثر منه في الجامعات!