ولد في تونس وجال العالم الإسلامي وصاحبَ الملوك والوزراء وكتب بغزارة في علم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد. ورغم أن معظم علماء الاجتماع يعتبرونه أكثر العظماء الذين لم ينصفهم التاريخ، إلا أن بصماته ما تزال حيّة في أعرق الجامعات الغربية.
لقد استشهد به الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، واعتبر مؤسس شركة فيسبوك مارك زوكربيرغ كتاب "مقدمة ابن خلدون" ضمن أعظم المؤلفات التي تؤثث مكتبته.
أما المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد جوزف توينبي فوصف مؤلفات ابن خلدون بـ"فلسفة التاريخ التي تعتبر بلا أدنى شك أعظم عمل أنشأه العقل البشري في كل الأصقاع والأزمان".
وبالفعل، فقد سبق عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون (1332 - 1406) مؤسسي علم الاجتماع الحديث أمثال أوغست كونت وإميل دوركايم إلى تبني المنهج العلمي التاريخي لتحليل الظواهر الاجتماعية.
وفي مجال علم الاقتصاد، سبق آدام سميث إلى دراسة العمل كمصدر للنمو وتراكم رأس المال، بالإضافة إلى دور الدولة في الاقتصاد والسياسات الماكرو-اقتصادية.
حياة ابن خلدون
ولد ابن خلدون في تونس العاصمة في السابع والعشرين من ماي 1332. تميّزت هذه الفترة ببداية انحسار النفوذ الحضاري الإسلامي في العالم، وهذا ما يفسر التجاهل الذي قوبلت به مؤلفاته خلال حياته.
وانتظر العالم الإسلامي قرونا طويلة قبل أن يكتشف عبقرية ابن خلدون من أعمال كبار المؤرخين والفلاسفة الغربيين.
ويرُجع ابن خلدون جذور أجداده إلى حضرموت من اليمن، إذ يقول في كتابه "تاريخ ابن خلدون": "نسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من أقيال العرب معروف وله صحبة".
في شبابه، تتلمذ ابن خلدون على يد كبار العلماء في عصره. كان والده معلمه الأول في دراسة القرآن والحديث والفقيه، وساعده عالم رياضيات وفيلسوف من تلمسان يدعى العبيلي في دراسة المنطق والفلسفة، خاصة كتب ابن رشد وابن سينا والرازي.
فقدَ ابن خلدون والديه في سن مبكرة بسبب الطاعون أو "الموت الأسود" كما كان يُسمى آنذاك، كما فقدَ الكثير من أساتذته بسبب هذا الوباء الذي اجتاح منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا في أواسط القرن الرابع عشر.
في تلك الأثناء، لم يكن الطاعون السبب الوحيد للخراب الذي حلّ بتونس، إنما أيضا اضطرابات سياسية شديدة رافقت توغل الدولة المرينية (1340-1350) في معظم الأجزاء الشمالية للمنطقة المغاربية اليوم.
ترك ابن خلدون تونس وعمره 20 سنة هروبا من الفوضى السياسية فاستقر في مدينة فاس المغربية. عمل في البداية كاتبا لسلطان المغرب أبي عنان المريني.
في هذه الفترة، كانت فاس منارة العلم وعاصمة المرينيين، إذ احتضنت كبار الأدباء والمؤرخين من أمثال لسان الدين بن الخطيب وابن البناء المراكشي.
بعد سنوات قضاها بين فاس وغرناطة، عقد ابن خلدون العزم في 1379 على الرجوع إلى مسقط رأسه، غير أن بعض فقهاء جامع الزيتونة اعتبروه أكثر عقلانية مما يجب.
وبسبب عداء قديم مع إمام هذا الجامع الشهير، تعرّض ابن خلدون للتهميش واعُتبرت معظم أفكاره "تخريبية". وقد أصر السلطان التونسي على أن يبقى ابن خلدون في تونس ويستكمل كتابه "المقدمة" في بلده.
ولم يستطع ابن خلدون الالتفاف حول هذه "الإقامة الجبرية" سوى بعد أن طلب من سلطان تونس الرحيل إلى شبه الجزيرة العربية لأداء الحج، وهو طلب لا يُرد في العالم الإسلامي، لأن الحج فريضة على كل مسلم.
في 1982، غادر إلى مصر نحو الحجاز. أثارت مدينة القاهرة إعجابه أكثر مما كان يعتقد. ولأن شهرته سبقته إلى مصر، فقد استقبله السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين برقوق (1336- 1399) بحماس شديد ومنحه منصب القاضي.
ورغم استقراره في مصر إلا أن عائلته بقيت رهينة لدى سلطان تونس كضمانة على أنه سيرجع بعد انتهاء رحلة الحج.
وبطلب مُلح من سيف الدين برقوق، سمح سلطان تونس لعائلة ابن خلدون بالرحيل إلى القاهرة، لكن السفينة التي كانت تُقلّهم انهارت أمام عاصفة شديدة قبالة مدينة الإسكندرية، ولم ينج منهم أحد.
حمل ابن خلدون هذه الأحزان إلى قبره في مارس 1406، ودُفن معها في القاهرة.
أعظم أعمال ابن خلدون
يعتبر كتاب "العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، وتحديدا "المقدمة"، من أعظم أعمال ابن خلدون على الإطلاق.
الباحث السوسيولوجي الأميركي أحمد عقيل يعتبر في كتابه "عصر العولمة الجديد: المعنى والاستعارات" أن "مقدمة ابن خلدون" وضعت الأساس لدراسة منهجية السلطة، صراع الثقافات، وصعود وأفول الحضارات، بالإضافة إلى التغييرات السياسية والاجتماعية بشكل عام.
يلخص كتاب "المقدمة" المدرسة الخلدونية في التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد، ففي مقدمة الكتاب يقول: "أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال وتشد إليها الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، فهو في ظاهره لا يزيد عن إخبار عن الأيام والدول".
مباشرة بعد هذه التوطئة، يعود ابن خلدون لينتقد النظرة السائدة آنذاك في النظر إلى التاريخ قائلا: "إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صحائف الدفاتر، وأوعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوهَا، وزخارف من الروايات الضعيفة لفقرها ووضعوها، واقتفي تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوهَا، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح -في الغالب- كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل".
تعتبر هذه النظرة النقدية الحجر الأساس لفهم فلسفة ابن خلدون في التعاطي مع تاريخ الأمم، فالقاعدة الذهبية عنده تُلخّصها عبارة "إعمال العقل في الخبر"، فليست كل مرويات العصور الماضية صحيحة ومُسلّم بها، وليس التاريخ مقدسا ولا مدنسا، إنما يجب النظر إليه بحياد وتجرد.
يؤكد ابن خلدون، في مواضع كثيرة، أن العيب الذي يعتري التاريخ هو الكذب. ويضيف أن هناك أسبابا تجعل البشر ميالين للكذب والتحريف في نقل الأخبار والروايات، منها: ولوع النفس بالغرائب، وسهولة التجاوز على اللسان (سوء الفهم)، والتشيعات للآراء والمذاهب، والثقة المفرطة بالناقلين، وتقرب الناقلين من أصحاب السلطة والمراتب ومحاولة إرضائهم، والجهل بطبائع الأحوال في العمران (أي الجهل بالقوانين التي تحكم التغييرات داخل المجتمعات البشرية).
يقع كتاب "المقدمة" في ستة أبواب، وقد جمع فيها ابن خلدون عصارة فكره في مواضيع مختلفة، منها على الخصوص التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والشريعة وعلم الأحياء، بالإضافة إلى السياسة وعلم الاجتماع والطب.
المصدر: أصوات مغاربية