إلى معالي وزير الثقافة
بخصوص مهرجان المدن القديمة
معالي الوزير؛
اسمحوا لي وقد تم تنظيم ثماني دورات من مهرجان المدن القديمة وفي الوقت الذي تستعد فيه مدينة شنقيط لاستضافة نسخته التاسعة خلال بضعة أيام أن استرعي انتباهكم الكريم ومن خلالكم انتباه أعلي السلطات في بلادنا إلى الانحراف الخَلْقي الذي أصاب هذه المبادرة الجيدة ليحيلها إلى كلمة حق أريد بها باطل.
معالى الوزير
لقد رحب الجميع بالفعل في فبراير 2011م م بقرار رئيس الدولة السابق المصحوب بكثير من الدعاية والقاضي بإنشاء مهرجان المدن القديمة وذلك في إطار برنامج طموح قيل إنه يهدف إلى صيانة تراثنا الوطني وإحياء مدننا القديمة: وادان وشنقيط وتيشيت وولاته، وكذلك برصد ميزانية هامة لهذا الغرض.
ومما ضاعف الاحتفاء بهذا القرارأن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم كانت آنذاك تهدد بسحب صفة تراث عالمى من هذه المدن بحجة عدم وفاء بلا دنا بالتعهدات التى التزمت بها فى هدا الشان
وبناء على هذا فقد اقتنع الجميع بإمكانية بعث روح جديدة في هذه المدن عن طريق وضع
برنامج من مكونتين: العمل على صيانة الكنوز الثقافية والمعمارية والأثرية التي تزخربها هذه المدن الضارب تاريخها في العصور الوسطى والتي لا تقدر بثمن من جهة واستغلال الامكانات الاقتصادية والسياحية المتوفرة سبيلا إلى كبح جماح هجرة من تبقى من ساكنتها و ـ لم لا؟ ـ إلى تشجيع عودة بعض أولئك الذين غادروها تحت وطأة شظف العيش وهشاشة ظروف الحياة محليا من جهة أخرى.
وعلى ضوء هذه الرؤية وتأكيدا لتفاعلهم الإيجابي مع ما كان يبدو في الظاهر لفتة قيمة من
طرف الدولة اتجاه حواضرهم الأصلية، اعتبر كثير من أصيلي هذه الحواضرالقاطنين في
انواكشوط أوخارجها أن من واجبهم أن يشاركوا بحماس في فعاليات هذا المهرجان فتنقلوا بكثرة وبعائلاتهم في أغلب الأحيان من أجل المساعدة بكل سرورفي استقبال وإنجاح الدورات الأولى للمهرجان في مدنهم. ولقد تطلب ذلك منهم تضحيات لوجستية لا يستهان بها نظرا لبعد الشقة ووعورة الطرق المؤدية إلى هذه المدن ومحدودية أماكن الضيافة فيها.
واليوم وعند مفترق الطرق حيث مضت تسع سنوات على خطاب شنقيط وعشية الدورة التاسعة للمهرجان فقد تبخر هذا الحماس كقطعة ثلج تحت لفح شمس حارقة. ويكفي للتأكد من عمق خيبة الأمل التي خلفها ذلك أن نقارن بين تكلفة هذا التجمع السنوي المادية والمالية الباهظة ومردوديته الفعلية الضئيلة على وضعية المدن القديمة. ولن يقول بعكس ذلك إلا مخادع.
ويمكننا على سبيل المثال أن نؤكد فيما يخص مدينة تيشيت أنه بعد الدورتين الثالثة والسابعة
اللتين استضافتهما هذه المدينة سنتي 2013 و2017، فإن وضعها ما زال بنفس الهشاشة إن لم يكن قد ازداد سوء بالنسبة للفترة السابقة لإنشاء هذا المهرجان. فسواء تعلق الأمر بالعزلة
الخانقة المنقطعة النظيرالتي تعيشها أو بحالة التردي التي توجد فيها مخطوطاتها الكثيرة أو
بإهمال تراثها المعمار والأثري والطبيعي أو بظروف عيش سكانها الذين تصاعدت وتيرة
نزوحهم فلم يتم الشروع في تنفيذ أي وعد من وعود البرنامج المعلن عنه.
كل ما في الأمر أنه بمناسبة الدورتين المذكورتين أعلاه تم منح مبالغ زهيدة لبضع عشرات من العائلات كعوض عن استقبالها واستضافتها لبعض الضيوف. وعلى ذكر هذه المبالغ ومن باب التندر فإنها برمتها لا تكاد تساوي من مجمل تكلفة المهرجان ما صرفه متنافسو رياضة الرماية المشاركون فيه على وقود سياراتهم.
ومع ذلك يتواصل هذا الموعد السنوي الذي أصبح ميدانا مفضلا لدى جيش من المطبلين
والفضوليين والذي يستقطب آلاف الزوار من داخل الوطن ما بين موظفين سامين وأعيان
ورجال أعمال من جميع الولايات الذين يأتون جميعهم على متن مئات السيارات العابرة
للصحراء والمستهلكة دون حدود للوقود محتِّمين على أنفسهم تجشم هذا السفر الطويل لا لشيء سوى أن يكونوا حاضرين لدى استقبال الرئيس.
إلا أنهم سواء كانوا مدعوين من طرف الدولة عن طريق ما يسمى بمؤسسة المدن القديمة أو من طرف منتخبين أو أعيان أو أصيلي المدينة المستضيفة، يغادر هؤلاء جميعهم كما جاءوا بعد بضعة أيام غالبا دون أن يشرفوا هذه المدينة باستثمار ولو نظرة خاطفة على مكتبة أو أثر معماري أو قرية مجاورة يرجع تاريخها إلى العصر الحجري الحديث.
بيد أن مليارات الأموال العمومية والخصوصية التي تبخرت خلال السنوات الثمان المنصرمة صرفا على النقل والاستقبال وراحة ضيوف هذا المهرجان كانت كافية لإنجاز أعمال مجدية من شأنها أن تساهم فى بعث هذه المدن القديمة من سباتها وفي صيانة الكنوز الثقافية والأثرية الموجودة فيها وجني فوائد علمية كبيرة منها.
لكن مع الأسف وباستثناء بعض العروض المعادة في كل دورات المهرجان حول تاريخها
وماضيها الثقافي الثري فقد تم بكل بساطة استغلال تدهور وضع مدننا القديمة لإنشاء وتثبيت احتفالية ضخمة أصبحت غاية في حد ذاتها بدل أن تشكل دعامة حقيقية للبرنامج المعلن عنه وموعدا سنويا لتقييم إنجازاته لو كانت الدولة التزمت بوعودها.
ومجمل القول معالي الوزير، أنه حان الوقت بل وتجاوز لوضع حد لهذا الانحراف اللامعقول
الذي يؤدى منذ تسع سنوات إلى هدر كل هذه الأموال لا لغرض سوى لتنظيم استقبالات فاخرة لكثير من ضيوف الشرف ومنح مبالغ باهظة لمنظمي ومنعشى احتفالية الكترونية تفوق الخيال وتنتهك سنويا معاناة مدننا الضارب تاريخها في القرون الوسطى قبل أن تختفي بعد أسبوع كالشبح دون أن تترك وراءها أي أثر.
أملى أن تجد هذه الصيحة التنبيهية صدى إيجابيا وتقبلوا معالي الوزير أصدق عبارات التقدير والاحترام.
· انواكشوط بتاريخ 20/10/2019 م
الشيخ سيد احمد ولد باب امين