..... الرقعة التي اختُط عليها مبنى المعهد القرآني الجديد كانت ملكا للرجل الصالح الشيخ دوردي الشالي رحمه الله، وقد استولى عليها الحاكم الشيوعي أيام شوكته، وكان الشيخ المذكور يقول إنها ستعود يوما لحكم الإسلام؛ وهو ما تحقق في العصر الحديث للدولة، فقرر السيد الرئيس جعلها صدقة جارية لهذا الشيخ؛ وأمر ببناء ساحتها معهدا لتدارس كتاب الله وحفظه.
تقدم أمامي أحد أعضاء لجنة التنظيم صوبَ الكراسي المصفوفة للضيوف، وقدم لي كرسيا خلف الصف المخصص لرؤساء الوفود.إلى جانب ممثلي مجلس جائزة دبي لحفظ القرآن الكريم.
على المقعد الذي بين يديَّ يجلس الشيخ با بكر أحمد زاده كبير علماء الهند، وقد عرَّفني به ابنه الجالس عن يميني، وعن يساره الأستاذ الدكتور أحمد توفيق وزير الأوقاف بالمملكة المغربية، الذي عرفته بناء على رؤية سابقة عن كثب في مجلس للدروس الحسنية حضرته بالقصر الملكي في الدار البيضاء سنة 1435هـ.
أعجبني الأسلوب العفوي الطيب للدكتور أحمد توفيق في مجمل وقائع هذا اليوم، وعلى وجه الخصوص في تعامله مع من حوله من المرافقين وأهل العلم؛ فقد توجه إلى الشيخ با بكر عند جلوسه بما هو أهله من التوقير، وحياه تحية الصغير للكبير، ولم يزد في التعريف بنفسه على القول: أنا أحمد توفيق من المغرب، أعجبني تناسيه لمنصبه ومكانته العالية بحضرة العلماء، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: مَن تَوَاضَع للّه رَفعه الله.
ومن كلام الحكماء " تواضعك في شرفك أحسن من شرفك" و" من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره".
وسينتابني الشعور نفسه بعد ذلك في ثنايا وقائع هذا الحفل من موقفين حصلا للسيد الرئيس رمضان قاديروف؛
أحدهما: قيامه لاستقبال وزير التسامح الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان الذي دخل القاعة متأخرا بعد بداية الحفل، وهذا أمر غير مألوف حسب الأعراف الرسمية التي نسمع عنها.
ومع ما يشعر به هذا القيام التلقائي من تواضع ونبل فإنه يدل على مدى تقدير السيد الرئيس للصلة الأخوية الوثيقة التي تربط جمهورية الشيشان بالعالم العربي والإسلامي.
الثاني: قيامه لسماحة المفتي الشيخ صلاح وإيثاره له بمقعده عند عودته من منصة الخطابة بعد إلقاء كلمة الافتتاح باسم السيد الرئيس.
ومما رُفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أفضَل الرجال مَن تَوَاضع عن رِفْعة، وزَهِد عن قُدْرة، وأنصف عن قوة.
بعد لحظات من وصول السيد الرئيس إلى مقر الحفل أعلن مستشاره السيد آدم شهيدوف عن بداية وقائع حفل افتتاح المعهد القرآني السابع في جمهورية الشيشان، وكانت البداية بتلاوة من أحد فتيان البلد لآيات من سورة (الرحمن) كانت في غاية الحسن والإتقان.
وإذا كان للاستفتاح بهذ السورة معنى خاص في هذا السياق لتناولها لتعليم القرآن في بدايتها فإن له مناسبة لا تقل شأنا عن ذلك وهو أن من بديع أسلوبها افتتاحها الباهر باسم {الرحمن} وهي السورة الوحيدة المفتتحة باسم من أسماء الله لم يتقدمه غيره.
لاحظت أن القارئ وقف عند كلمة {الرحمن}، ثم استأنف {علم القرآن}، وهو ما يقتضي أنهما آيتان، لا آية واحدة كما هو المعروف عند الجمهور، لكن "حكى ابن فورك عن قوم أنهم يجعلون {الرحمن} آية تامة، كأن التقدير: {الرحمن} ربنا، قاله الرماني أو أن التقدير: الله { الرحمن } . وقال الجمهور إنما الآية: { الرحمن علم القرآن } فهو جزء آية"
"وما حكى ابن فورك هو الواقع في المصاحف التي برواية حفص عن عاصم - وهي الرواية المعتمدة في الشيشان- فقد وضعت فيها علامة آية عقب كلمة {الرحمن}، إذ عدها قراء الكوفة آية؛ فلذلك عد أهل الكوفة آي هذه السورة ثمانا وسبعين".
وهي ست وسبعون بالعد البصري، وسبع وسبعون بالعد الحجازي.
ولذا فإن ما نرى من وضع علامة الآية عقب كلمة الرحمن في بعض المصاحف المطبوعة برواية نافع يحتاج لتحرير ومراجعة مع ما في كتب التفسير.
بعد ختم القارئ لتلاوة ما تيسر من سورة الرحمن، استأنف الشيخ آدم الكلام؛ فأجمل في عرضه الوافي أمام الحاضرين أهم محاور الحفل ورفَع النقاب بالأرقام عن أبرز محطات المسار التعليمي للقرآن الكريم في الجمهورية؛ وأفاد من خلال ذلك أن سبعة من أبناء الرئيس الحالي وأربعة عشر من أحفاد والده الشهيد أحمد حجي قد تخرجوا حفاظا لكتاب الله بهذه المعاهد القرآنية.
وبعد الخطب الرسمية بدأت وقائع تكريم الفائزين في المسابقة القرآنية وأعضاء لجنة التحكيم؛ فدُعوا إلى المنصة لاستلام شهادات تقدير من طرف مفتي الجمهورية الشيخ صلاح مجييف.
تقدم أعضاء لجنة التحكيم الخمسة؛ وهم: رئيسها: الشيخ أيمن رشدي سويد، من السعودية، وأعضاؤها: الشيخ ماهر المنجد من سوريا، والشيخ صادق محمد عبد الله علي من اليمن، والشيخ أحمد بن عبد القيوم بن عبد الرب النبي من باكستان، والشيخ سيد حسين علي عدنان سيد إبراهيم من الشيشان.
أما المشاركون في المسابقة القرآنية فهم خمسة وعشرون تم اعتمادهم من طرف وزارات الأوقاف ببلدانهم، واستدعاؤهم بعد ذلك من طرف اللجنة المنظمة للمسابقة، وبعد اختبارهم من طرف لجنة التحكيم تم اختيار ثلاثة منهم للفوز بالجوائز المرصودة للحاصلين على المراتب الثلاثة الأولى.
ثم تقدم حملة القرآن الذين تلقوه من غير المعاهد القرآنية ليسلموا للطلبة المبتدئين في هذا المعهد الجديد أمانة حفظ القرآن والعناية بتدارسه وحمله.
وقد وقف الطلبة صفوفا في جوانب الحفل على هيئة واحدة تحت شعار واحد وعلى قلب رجل واحد.
شرف تتابع كابرا عن كابر ** كالرمح أنبوبا على أنبوب
وأرى النجابة لا يكون تمامها ** لنجيب قوم، ليس بابن نجيب
في هذه الأثناء اخترقت أجواء المدينة أصوات محركات طائرة مروحية اقتربت إلى حد ما من مبنى المعهد؛ ففزع من فزع، وتذكر قول عمرو بن أمامة: (إن الجبان حتفه من فوقه) وثبت من أيده الله بالفهم وبملكة وضع الأمور في سياقها أيا كانت طبيعتها.
وَقور يشد الخطب حبوة حلمه ** إذا روعة حلت حبا الحلماء
بعد استكمال مسطرة الحفل دعا السيد المستشار رؤساء الوفود للقيام بجولة في مباني المعهد، وتقدم باقي الضيوف لتهنئة الفائزين، وأخذ أعضاء لجنة التنظيم في تهدئة الباقين وطمأنتهم على أن سعيهم مشكور وأن أقدامهم لن تضيع.
عاد أكابر الوفود من جولتهم في المعهد والتقى الجميع لدى الباب، فتوجهوا إلى المسجد الكبير الموازي للمعهد سعيا على الأقدام ليشهدوا وقائع الجزء الثاني من هذه المشاهد الاحتفالية الكبرى.