ذ. أبو سهلة سيد احمد - بمناسبة افتتاح السنة الدراسية؛ أقول: إن التدريس فن كاﻹفتاء والقضاء، يتطلب ملكة وحنكة وممارسة، وأهم شيء في المدرس أن يجمع إلى جانب اﻹخلاص والتواضع صفتين مهمتين، لا يستحق هذا المنصب إلا بهما:
أولا إتقان المادة التي يدرٌسها أو الكتاب الذي يدرّسه؛ فلا يكفي في التدريس أن يكون الشخص مر على محظرة؛ أوتخرج من جامعة
ثانيا أن يكون مجيدا للإلقاء؛ لا أقول: لابد أن تكون له قدرة هائلة على فن التوصيل واﻹيضاح، وإنما أقول ينبغي أن تكون له قدرة معقولة تجعل المعلومة التي يقدمها في متناول المتلقين.
ولعمري إنه ﻷمر جدير بأن يتنبه له، ذلك أنه لا ترابط بين الصفة اﻷولى وهذه، بمعنى أنها لا تتضمنها فلا يكفي في التدريس أن يكون الشخص يعرف المادة أو الكتاب موضوع التدريس، ليتبوأ هذا المنصب، فكم من شخص يتقن مادته، لكنه عيي لا يكاد يبين!
إذا أراد توصيلها للطلاب أو غيرهم تصبّب عرقا، وتلعثم تلعثما ترحمه من أجله!
فإذا جمع المدرس هاتين الصفتين كان كفؤا صالحا ﻷن تسند إليه هذه المهمة، وانتزع احترام الطلاب وإعجابهم، وإذا أخل بهما أو بإحداهما ، صار غاصبا للمنصب، مثيرا للشفقة!
يستجدي الطلاب كي لا يكشفوا عواره، وسيحمل أوزارهم وأوزاره.
ومن المهم للمدرس - بعد تحصيل تينك الصفتين - أن يحاول اﻹبداع؛ بمعنى أن يأتي بجديد سواء على مستوى الشكل أو المضمون.
فاﻹبداع على مستوى المضمون بأن يأتي لطلابه بزيادة على ما في الكتب المطبوعة التي هي في المتناول؛ تلك الزيادة قد تكون: نادرة، أو غريبة، أو تنبيه على وهم اكتشفه من خلال مطالعته، أو نظم لمسائل متفرقة حفظه من شيخه، أو "فهما أوتيه رجل مسلم".
أما اﻹبداع في الشكل فبأن يبصم على الدرس بأسلوبه الخاص السهل، لا أسلوب الكتاب الذي كان يحضّر منه، أو الذي كان يحفظه، بحيث لا يمكنه تأدية ذلك بأسلوبه الخاص، وليست هذه دعوة لترك التحضير، فالتحضير ضروري جدا، وكما يقولون:"اﻷستاذ مبتدأ وخبر" يعنون بذلك قولهم: "اﻷستاذ تحضير"
ولكن إذا كان اﻷستاذ لا يمكن أن يرفع عينه عن الكتاب، فيبقى "اﻷستاذ هو الكتاب".
ما أعنيه هو أن يكون الشخص ملما بالموضوع إلماما قويا، بحيث يؤدي ما في الكتاب بألفاظه الخاصة وأسلوبه الذي يميزه، فيكون بذلك قام بعملية تكرير للمادة الخام التي في الكتاب، وأخرجها في ثوب جديد، هو أسلوبه، ولغته، ومن ثم امتلكها، وهذه العملية لا يمكن أن يقوم بها إلا من استوعب ما في الكتاب استيعابا قويا، وكانت له قريحة جيدة.
أما من يتأبط كتابه، ثم يدخل الفصل فيبدأ يقرأ الكتاب حتى يقتل ساعتين! ويخرج، فهذا جدير بأن يبقى في المنزل ويرسل الكتاب للطلاب ليقرؤوه.
وأتذكر أنه زمن المعهد العالي كان عندنا أستاذ عهد إليه بمادة النحو، فكان يدخل ويكتب " من الكتاب" أبياتا من اﻷلفية، ثم يبدأ يقرأ الشرح من ابن عقيل! ولا يزيد على ذلك ولا ينقص، فكان زميل لي درس معي في المحظرة، عندما يدخل ذلك اﻷستاذ يخرج ويقول:"ابن عقيل عندي في الدار"!!
ومن فوائد التحضير الجيد أن الشيخ أو اﻷستاذ، يستطيع - غالبا- تطويق أسئلة الطلاب أو معظمها، تلك اﻷسئلة التي تنهال عليه بكثرة فإذا لم يضع لها حسابا في التحضير بحيث يطرحها على نفسه و يبحث عن جواب لها قبل أن تطرح عليه، قد تحرجه.
وأتذكر في هذا السياق أن أحد أشياخي - وكان مفوها وله قدرة فائقة على اﻹيصال - كان يدرسني ..وكنت وقتها قد وصلت الربع اﻷخير من خليل، فجئته ذات صباح فقال لي: "گدم" أي ابدأ قراءة النص لكي أشرح لك، وكان "القِفّ" يومها من اﻹجارة، فقلتُ
: " وعين متعلم ورضيع" فنظر إلى الدردير - وأهل منطقتنا لا يفسرون " مختصر خليل" بدون كتاب، ويقولون : " من أراد أن ينظر إلى فم كذاب، فلينظر إلى مفسر خليل بلا كتاب" - ثم قال لي من الكتاب - معللا تعيين الرضيع والصبي الذي يراد تعلميه - " وذلك لاختلاف الصبيان ذكاء وبلادة".
فقلت له: شيخنا رؤية الرضيع أي تعيينه قد يفيد ﻷن رضاعه إذا كان كبيرا يختلف عنه إذا كان صغيرا..
أما الصبي الذي يراد تعليمه، فمجرد رؤيته لا يفيد ذكاء ولا بلادة!!
فأعاد النظر إلى الكتاب من جديد بكل أريحية وتواضع، ثم قال لي : "صحيح، لكن هكذا قالوا"!
فالتحضير الجيد ينفع في مثل هذه اﻷسئلة.
وأعرف - شخصيا -أحد فقهاء بلدنا معرفة اليقين - لا أريد ذكر اسمه؛ لكنه من أكثر علمائنا ألقا وفصاحة وجودة أداء - لا يذهب إلى محاضرة إلا بعد التحضير الجيد، ولا إلى درس في اﻹذاعة أو التلفزة إلا بعد أن يعمل جولة مكثفة في مكتبته حول الموضوع وما كتب عنه قديما وحديثا، بل إنه في بعض اﻷحيان يأتي للمحاضرة وفي يديه أوراق، لكنها أوراق لا كاﻷوراق! أوراق من ترتيب فكره، وجودة نظره، ثم يؤديها بفصاحة منقطعة النظير، وتأنق في المعاني واﻷلفاظ، وبهذا بذ نظراءه، وفاق أقرانه.
إنها جودة القريحة؛ وحسن التحضير.