تونس بلد يُحبّب في نفسه، من ألطف البلدان العربية التي كانت مُمسكة بالأمل، و أكثر شعوبها تمدنا ونظافة،.. طبعًا، أحببتُ تونس التي كانت، التي هَزمت العوائق لعقود ثم ترنَّحت،.. ولقَّنتُ مُخيلتي درسا من نسيانها، فقد تعاقد معنا الأمل على خصامه منذ تطايرت شرارات البوعزيزي فأحرقت،.. لقد عجزتُ عن ازدراد تونس التي قَبُحتْ تفاصيلها بما يشبه ملامح المرزوقي، وتهدَّلت أيامها كوجه السّبسي..
تونس كبلدان عربية أخرى، كانت لحنا جميلا كاد يبدأ فانقضى أو تشرَّد، بعد أن اشتدَّ النّباح على قوافله.
زرتُها كثيرا للتدريب والتكوين، وفي وفود رسمية، ولي ذكريات في أكثر من ركن.
كنتُ مرة ضمن فريق شبابي مُشارك في الجامعة الصيفة العمالية، وكان من ضمن الفريق شاب من أهل الشركَ مُلتح، طيٍّب وبصفاء المياه المعدنية، كان سفره الأول للخارج وواقع تحت تأثير صدمة الانبهار،.. وشاب آخر من أهل الكَبله رزين، بشوش وصناعة جنوبية أصلية.. أنزلونا في فندق يعجّ بالسائحين،.. والطريق الموصل للمطعم يمر حتما بالمسبح، والأجسام البرونزية المنحوتة مبثوثة على جنباته تتشمَّس، وأخرى تتبختر جيئة وذهابا كقصور من رخام، ولا تستر أكثر من السَّبيلين وما جاورهما في تقتير شديد.
نزلنا للمطعم، فاصطدمنا ببعض المصطافات بملابس السباحة فصرخ زميلنا الشرقاوي بأقصى طاقة حنجرته، الله أكبر!.. تطاير الجمع وهرع إلينا عمال من الفندق يستفسرون.. اقترح عليه الكَبلاوي، أن يغض بصره عنهن ويحفظ للفريق هيبته،.. فنفَّذ، لكنه ارتطم بعد حين بحاجز زجاجي وكاد يغمى عليه،.. اقترح عليه ثانية، أن يغضَّ بصره وسيتولى هو خدمة قيادته مغمض العينين يوميا إلى أن يتجاوز المسبح، فارتاح للاقتراح،.. إلا أنه في كل خطوة كان يسأله: كَولي أنتَ ذلِّي شايف كَدامك شنهو،.. فقال له الكَبلاوي: حكَلَّ، انتَ عايد غاضْ بصركْ عن النار، وادُّور انيانَ انتَمْ انقوَّدلك ابعينيَّ.. حلْ عينيك، كَدام أنواع فضل مولان.
خرجنا ذات مساء للتزود من "مغازة"، فغافلنا صاحبنا الشرقاوي وخرج للشارع بدافع الاسكتشاف "يتْلمَّع"، فالتقطته الشرطة ولم نَعلم،.. هرول إلينا حارس المخزن وهمس: صديقكم شَدتُ البوليسية، فرد عليه الكَبلاوي في ارتياح مُتشفٍّ: كَتلك، ما تعرفلي إصَّ يكانها حامده ولَّ صابره.
صيف تونسي آخر، سنوات بعد ذلك، وفي وفد من نوع آخر، ضمَّ ضابط صفٍّ من اعرَبْ الشمال، يحمل من حلاوة براءة الوديان الفطرية، مرافق لشخصية رسمية،.. يومه ذاك كان خاليا من نشاط خارج الفندق، والجو حارق،.. اختمرتْ في دماغه فكرة أن يستنقع في أحد المسابح المنتشرة بالفندق المُصنّف ليتبرَّد،.. فنزل يتلفَّع برداء الحمام " Peignoir" ، ولباس داخلي " Slip" غير مُخصَّص للعوم، ومن الوقاحة في آداب التَّعري رفع الغطاء عنه في الأماكن العامة..، القى عنه بالرداء، ورمى بجثته الضخمة في مسبح مُمتلئ بفوج سياحي نسائي من عجائز إيطاليا، فئة ما فوق الثمانين، ثم شرع يرشهن بالماء في مزاح أعرج،.. ذعرن وخرجن كالكتاكيت المبللة، هرج واحتجاج!.. لخبار فاش آدجدان؟ .. ردَّ: إطيَّرهم اتحمجيتْ الهم نجلي عنهم لعمش، ما امعاهم راجل.. وكيفتْها اكَبيل اتكَر فيهم يفظحهم.
بالتوفيق لتونس في هذه اللحظة الشاهقة من يومها، وأتمنى أن تقوم بواجب استدعاء حلم في الانتظار، وأن لا تخذلها قدماها في منتصف الطريق.