هلال شوال بين الرؤية والحساب
د. محمد سالم بن دودو
يتساءل الكثيرون في هذه الأيام عن إمكانية رؤية هلال شوال 1440 مساء غد الاثنين التاسع والعشرين من رمضان في العديد من الدول الإسلامية.
وقد تزايدت هذه التساؤلات بعد البيان الذي أصدرته مجموعة من الفلكيين العرب، وخلصت فيه إلى أن رمضان هذا العام سيكون 29 يوما باعتبار الحساب، و30 يوما باعتبار الرؤية.
ولئن سلمنا لهم ما يتعلق بالحساب، فإن جزمهم بامتناع الرؤية مساء غد الاثنين التاسع والعشرين في عموم العالم غير مسلم عقلا ولا عادة.
وهذا ما نريد مناقشته في هذا المقال من خلال محورين؛ نخصص أولهما لتقديم بعص الضوابط العلمية العامة في العلاقة بين الحساب والرؤية عموما، ونخصص الثاني للمعطيات الدقيقة لوضع هلال شوال في أفق ثلاثة مدن إسلامية هي مكة المكرمة ونواكشوط وكابول ليلة الثلاثاء القادم، لبيان فرص رؤيته فيها.
المحور الأول: ضوابط علمية في العلاقة بين الحساب والرؤية
يعتبر الحساب الفلكي يقينيا في تحديد موقع القمر بالنسبة للشمس في أي لحظة، وفي تحديد وقتي غروبهما في أي يوم عند أي نقطة على وجه الأرض.
وتتيح هذه المعطيات اليقينية معرفة جازمة بما إذا كان القمر سيغرب قبل الشمس أو سيمكث بعدها.
ويعني غروبه قبلها أو بالتزامن مع غروبها استحالة عقلية كلية لرؤية الهلال تلك الليلة، ويوجب شرعا رد أي شهادة برؤيته باعتبارها شهادة على معدوم.
وأما بقاؤه بعدها فهو محل التفصيل، ومكمن الجدل والتخمين.
ويمكننا تقسيمه باعتبارات علمية واضحة إلى ثلاثة احتمالات لكل منها حكمه في تقدير إمكان الرؤية؛
الاحتمال الأول: أن يقل البعد الزاوي بين الشمس والقمر عن خمس درجات، فيكون الهلال لحظة الغروب داخلا في دائرة الشعاع المكثف للشمس، فنقول إن رؤيته "مستبعدة" عادة لصغر حجمه وقربه من الشمس وقصر مكثه بعدها، ولا نقول باستحالة رؤيته عقلا لكونه قد ولد بالفعل، وإن كان ليس كل وجود مقتضيا للوجدان، على حد تعبير المناطقة.
وتعبر هذه الوضعية هي الأشد إشكالا لصعوبة رد الشهادة بالرؤية (لأنها شهادة برؤية هلال متحقق الوجود)، وصعوبة تصديقها (لتضافر الموانع العادية من رؤيته)، مما يتطلب تعميق النظر الفقهي والعلمي في حيثيات الحالة كلها.
الاحتمال الثاني: أن يتراوح البعد الزاوي بين الشمس والقمر من 5 إلى 7 درجات، فيكون الهلال لحظة الغروب خارجا من الشعاع المكثف للشمس، وإن كان باقيا في شعاعها الخفيف. فنقول في هذه الحالة إن رؤيته "محتملة" عقلا وعادة أيضا، ولاسيما في الظروف الجوية المثالية، وإن لم تكن "أكيدة".
ولا شك أن رد الشهادة بالرؤية في هذه الحالة مفتقر إلى مسوغ شرعي لا يبدو بديهيا على الأقل.
الاحتمال الثالث: أن يزيد البعد الزاوي بين الشمس والقمر على 7 درجات، وفي هذه الحالة يكون الهلال وقت الغروب خارجا بالكلية من شعاع الشمس، وهو ما يجعل رؤيته في الظروف العادية "أكيدة" عقلا وعادة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن البعد الزاوي المعني بين الشمس والقمر ليس دائما مطابقا لارتفاع القمر عن الأفق، كما يتوهم كثير من الفلكيين الهواة.
بل هو وتر مثلث غروبي مفترض قائم الزاوية قاعدته ميل القمر عن الشمس لحظة الغروب، وارتفاعه هو ارتفاع القمر عن الأفق لحظة الغروب أيضا.
ولا يتطابق البعد الزواي بين القمر والشمس مع ارتفاع القمر عن الأفق إلا في حالة واحدة، هي عندما تكون الشمس والقمر على خط عرض واحد، فتكون قاعدة المثلث الغروبي المشار إليه تساوي صفرا، فيتطابق الوتر والارتفاع، ويتحول المثلث المفترض إلى مجرد خط مستقيم يعبر في آن واحد عن ارتفاع القمر فوق الأفق وعن بعده عن قرص الشمس لحظة الغروب.
المحور الثاني: المعطيات الفلكية لهلال شوال في مكة وكابول ونواكشوط
اخترنا هذه المدن الثلاثة لكونها تمثل وسط العالم الإسلامي ومشرقه ومغربه، ولكون حالة الهلال المرتقب فيها تقدم نماذج عملية لما تقدم في المحور الأول من الاستحالة العقلية للرؤية (كما في كابول) واستبعادها باعتبار العادة (كما في مكة المكرمة) واحتماليتها عقلا وعادة (كما في نواكشوط). وأما "تأكدها" فغير حاصل في عموم العالم الإسلامي تلك الليلة.
ويولد هلال شوال فلكيا بعد لحظ الاقتران التي تتم يوم الاثنين على الساعة 10:02 قبل الزوال، بالتوقيت العالمي الموحد.
وفي العاصمة الأفغانية كابول مثلا يغرب القمر مساء الاثنين على الساعة 18:59 قبل دقيقتين من غروب الشمس على الساعة 19:01، وهذا هو مثال استحالة الرؤية عقلا، إذ لا وجود للقمر فوق الأفق نهائيا لحظة غروب الشمس.
وفي العاصمة المقدسة مكة المكرمة تغرب الشمس يوم الاثنين على الساعة 18:45 ويغرب القمر بعدها بأربع دقائق فقط، أي على الساعة 18:49.
وهنا تستبعد الرؤية عادة، ولا يصح الحكم باستحالتها عقلا لكون الهلال قد ولد بالفعل، وبقي في الأفق بعد غروب الشمس بمدة ما.
وأما في العاصمة الموريتانية نواكشوط فإن الوضع يختلف، إذ الشمس تغرب يوم الاثنين على الساعة 19:36 ثم يغرب القمر بعدها ب16 دقيقة، أي عند الساعة 19:52.
وتكون الشمس لحظتها عند خط العرض 22 درجة و21 دقيقة وعند خط طول 114 درجة، بزاوية قدرها 294 درجة إلى الشمال الغربي. والقمر عند خط العرض 20 درجة و19 دقيقة وخط الطول 108 درجة، بزاوية قدرها 291 درجة إلى الشمال الغربي، أي مرتفعا عنها بخمس درجات وثلاثة أرباع تقريبا، (وهذا هو ارتفاع المثلث الغروبي)، ومبتعدا عن سمتها الأفقي بدرجتين إلى الجنوب، (وهذه هي قاعدة المثلث الغروبي).
وانطلاقا من تحديدنا لبعدي القمر الأفقي والعمودي بالنسبة للشمس، فإنه يمكننا تحديد بعده الزاوي عنها (أي المقدار الزاوي للخط المستقيم الفاصل بينهما)، وذلك بتطبيق نظرية بيتاغورس في المثلث القائم الزاوية.
فنجمع مربع القاعدة وهو (4) إلى مربع الارتفاع وهو نحو (33)، فيكون الحاصل (37)، وجذرها (6) تقريبا. وهو مقدار وتر المثلث وهو البعد الزاوي المستقيم بين قرصي الشمس والقمر لحظة الغروب.
وقد بينا في المحور الأول أن هذا البعد (6 درجات) هو متوسط المجال الزاوي الذي تكون فيه الرؤية بالعين المجردة "محتملة"، ولذلك فإنه لا يسوغ شرعا رد الشهادة برؤيته (رغم عسرها)، إلا لقادح خاص بالشاهد أو نفس الشهادة، لا باعتبار يرجع إلى الوضع الفلكي للهلال ذاته.
وخلاصة القول هي أن الحكم الجازم باستحالة رؤية هلال شوال مساء غد الاثنين التاسع والعشرين من رمضان في عموم العالم الإسلامي، هو حكم باطل عادة وعقلا (شرعا وطبعا).
وعليه فإن مدار إثباته متعلق بنتائج التحري، ولاسيما في غرب العالم الإسلامي وما غربه.
وبذلك يتجدد الإشكال الفقهي القديم في موضوعية القول بعموم الرؤية متى ثبتت في بلد ما، أو ضرورة البقاء على أن لأهل كل بلد رؤيتهم.