تمر اليوم ذكرى رحيل أحد أبناء موريتانيا البررة الذين خامرهم حبها منذ نعومة أظافرهم وترجموا ذلك الحب العارم والشغف الكبير إلى خدمة لها وتضحية من أجلها : إنه الرئيس السابق، والأب المصلح المصحح، الديمقراطي المبدئي، العقيد اعلي ولد محمد فال الذي بدأ مشواره المهني في سبعينات القرن الماضي بالدفاع عن موريتانيا باستماتة وبسالة منقطعة النظير خلال الحرب وعلى خطوط النار مما جعل رفاق سلاحه يلقبونه، مُحقين، بـ"أسد الصحراء". واليوم تفيض ذكريات المشاركين في تلك الحرب بقصص وحكايات بطولاته الخارقة وشهامته الفذة. و في السلم، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، لم يتوقف عطاء اعلي فواصل جهوده في سبيل حماية البلاد وتأمين العباد متقلدا عدة حقائب سامية قبل أن يجد ضالته المنشودة في الملف الأمني الذي أداره أكثر من 20 عاما باقتدار وجدارة وفر بهما جوا من الطمأنينة والسكينة لم تنعم البلاد بمثله، فتراجعت معدلات الجريمة، وأحبطت محاولاتها، وأجهض الإرهاب، وفككت خلاياه النائمة، ووئدت في مهدها.
المبادرة من أجل موريتانيا
وأمام حالة الاحتقان الكبيرة التي خلفتها شيخوخة نظام ولد الطايع، والتي تنامت بقوة مع بداية التسعينيات لدرجة أصبحت تهدد بانهيار الدولة بعد المحاولات الانقلابية المتكررة والحديث عن إدخال شحنات كبيرة من السلاح والعتاد وتشكيل وتدريب خلايا مسلحة في الخارج لمهاجمة نواكشوط والإطاحة بالنظام، لم يجد ابن موريتانيا البار بدا من تحمل المسؤولية وأخذ زمام المبادرة لإنقاذ وطن تائه تتقاذفه أمواج الإحتقان وسيول الدكتاتورية الجارفة وتتعاوره الدعوات العنصرية الشوفينية الضيقة، فقاد حركة تصحيحية أنقذت سفينة البلاد وأبحرت بها إلي بر الأمان وأسست لديمقراطية حقيقية حملت رئيسا مدنيا منتخبا عبر صناديق الاقتراع لأول مرة إلى سدة الحكم، وجعلت البلاد خارج خريطة الربيع العربي وما يجره من ويلات، ورصعت اسم الرئيس اعلي ولد محمد فال بأحرف من ذهب في التاريخ العالمي بوصفه ثاني رئيس عربي إفريقي يسلم السلطة طواعية ويخرج من القصر مرفوع الرأس بعد أن وفى بكل التزاماته ووعوده لشعبه، ناهيك عن ما عرفته تلك الفترة من إصلاحات جذرية على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، نذكر منها، من بين أمور كثيرة، زيادة الأجور بنسبة 100% وإعفاء المديونية التي كانت تثقل كاهل البلد، إلى جانب الإصلاحات السياسية والقانونية التي وضعت الأسس الصلبة لدولة مؤسسات ينعم فيها الجميع بالعدالة والديمقراطية اللتين اتخذتا شعارا مستنيرا للمرحلة تسمى به المجلس العسكري الحاكم واقترن به اسم رئيسه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الخروج من ضيق الجغرافيا إلى رحابة التاريخ
خرج اعلي غير نادم من السلطة إلي فضاءات أرحب تتجاوز الجغرافيا الضيقة لموريتانيا والمنطقة إلى التاريخ الواسع للبشرية جمعاء في العالم شرقه وغربه، فكان عضوا في هيئة أمناء مؤسسة ياسر عرفات، وفي هيئة صديقه الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شراك، وله حضور كبير في كل المؤتمرات الدولية المتعلقة بالديمقراطية والحكامة في أصقاع المعمورة. وانطلاقا من صفته كأول رئيس موريتاني يخرج القصر في مقدمة سيارة مدنية، وليس في مؤخرة سيارة عسكرية، حاضر في باريس وواشنطن وبروكسيل والمغرب ولبنان وغيرها عن الديمقراطية ودولة القانون، كما حصل على دكتوراهات فخرية وشرفية من عدة جامعات أروبية وافريقية تقديرا لدوره في إرساء الديمقراطية في بلده.
تجربة المعارضة
وعندما احتاجته موريتانيا من جديد خلال الأزمة التي عقبت الانقلاب على الرئيس المنتخب لبى نداء الوطن وانخرط في معارضة النظام والدعوة إلي عودة الشرعية وكانت مواقفه في هذا المجال جريئة وعميقة ونابعة من حس وطني قوي بعيد كل البعد عن القضايا الشخصية كما أكد ذلك في عدة مناسبات ولعدة وسطاء حاولوا رأب الصدع بينه وابن عمه الرئيس ولد عبد العزيز.
وقد سألته شخصيا في آخر أيامه عن موقفه النهائي من انتخابات 2019 وهل كان ينوى الترشح في تلك الاستحقاقات وأكدت له أن هذا السؤال بدأ يطرح بإلحاح لدى أوساط عريضة من الشعب الموريتاني فقال بالحرف إن موقفه من أي استحقاقات سواء كانت 2019 أم غيرها هو الموقف الذي يخدم موريتانيا ويصب في مصلحتها سواء كان ذلك بالمقاطعة، أو دعم مرشح ،أو الترشح ،وإنه ليس لديه أي موقف مسبق.
كانت معارضته متبصرة وليست عمياء ترفض كل شيئ وتتخندق ضد النظام في كل القضايا حتى ما يمس منها بالوطن وسمعته وحوزته الترابية وفي هذا الإطار أتذكر أنه غضب كثيرا من تصريحات السياسي المغربي بن كيران واعتبر أنها تخدم النظام لأن التعاطي مع هذا النوع من المواقف يتطلب موقفا موحدا من كل الموريتانيين، كما رفض التحالف مع بعض الجهات و السير في بعض الاتجاهات و المسلكيات التي اتبعتها أطراف في المعارضة وعندما استفسرته عن أسباب ذلك قال إنه لا ينتهج أبدا أسلوب الانتهازية السياسية.
وأتذكر بلوعة ومرارة كم عكرت صفوه في آخر اتصال هاتفي بيننا قبل ساعات من رحيله وجعلته يشعر بالحزن وعدم الرضي عندما حدثته عن أعمال الشغب التي شهدتها العاصمة احتجاجا على قانون السير والطابع العنصري الذي حاول البعض إضفاءه عليها حيث عبر عن أسفه الكبير وامتعاضه الشديد لذلك فهو كان يخاف على موريتانيا كما يخاف على أسرته الضيقة.
اعلي الإنسان
هذا الدور العظيم للفقيد اعلي ولد محمد فال، وطنيا ودوليا، لم يشغله عن لعب أدواره الشخصية من إبن بار بوالديه، يعتني بهما كثيرا، ويرعاهما طويلا، ويمنحهما كل ما يملك بدءا من منحته الدراسية، إلى أب حنون عطوف على بنيه، يتابع كل تفاصيل تربيتهم ودراستهم حتى وصلوا إلى ما هم عليه من أخلاق وعلم وفضل، بل كان رجل العشيرة كلها و جذيلها المحكك.
هذه الجهود الجبارة على المستويين العام والخاص لم تثني الرئيس اعلي عن المطالعة والقراءة بنهم إذ كان يخصص جزء كبيرا من وقته الثمين للإبحار في رفوف مكتبته الغنية الزاخرة بكل الثقافات والفنون والعلوم والآداب، مما طعم تجربتيه العسكرية والسياسية بثقافة موسوعية عالمة، كما كان على دراية كبيرة بالتقاليد والعادات وتاريخ المجتمع الموريتاني. لذلك عندما يتحدث في مثل هذه الموضوعات تحسبه مؤرخا حصيفا، إلى جانب خبرته الكبيرة بعلم الفلك وأحوال الطقس، ومعرفته الدقيقة للتضاريس الموريتانية المختلفة.
اعلي والعبادة
وكان لله جانب كبير من حياة ولد محمد فال لم يضيعه أبدا حيث كان في قمة البرور بوالديه والصدق والوفاء والإنفاق وحسن الخلق وحب الخير للجميع.
وقد أدى مناسك الحج والعمرة أكثر من مرة، كما كانت لشهر رمضان رمزيته الخاصة في حياته حيث كان، رحمه الله، يعلق جميع أسفاره وأعماله ليتفرغ للعبادة والصيام والقيام. وكان يستدعى دائما أحد المشايخ ليصلى به التراويح طيلة الشهر الكريم. وكان برنامجه الليلي، بعد صلاة التراويح، مشحونا بصلة الرحم والإنفاق على المساكين والمحتاجين وقراءة القرءان وغير ذلك من أعمال البر.
وقبل وبعد رمضان، كان للفقيد دور كبير في الإنفاق على المساجد والمحاظر. هذا فضلا عن حرصه خلال مشاوره المهني على إحقاق العدل ورفع الظلم عن المظلومين وعدم مخالفة شرع الله. ولعل الشهادة التي رواها الشيخ الكبير والداعية محمد ولد سيدي يحي خلال عزائه للأسرة خير دليل على ذلك. لقد قال انه، بعد تخرج أول دفعة من الشرطيات الموريتانيات بعث إلى المرحوم الذي كان يشغل وقتها منصب المدير العام للأمن الوطني منتقدا زيهن الذي يرى أنه لا يتماشى مع الشرع، فرد عليه اعلي على الفور يطلب منه اقتراح زي مقبول شرعا، فعرض عليه الشيخ الزي الحالي الذي اعتمده ولد محمد فال رسميا، وتم توفيره في أقل من أسبوع.
ولا شك ان أعمال الخير والبذل التي قام بها ولد محمد فال كانت مقبولة عند الله، ثقيلة في ميزان حسناته، لأن اكبر علامات قبول العمل حسن الخاتمة، وأولى علامات حسن الخاتمة النطق بالشهادتين طبقا للحديث الشريف : (من كان آخر كلامه لا اله إلا الله دخل الجنة). وقد أثبت من حضروا وفاة الرئيس اعلي أن آخر ما قاله كان : "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
أما العلامة الثانية فهي توقيت الوفاة في أقدس وقت في الأسبوع وفي الحديث الشريف :(ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)، فما بالك بساعتها.
والعلامة الثالثة كما في الحديث الشريف أيضا :(ما من مسلمٍ يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون باللّه شيئاً إلا شفِّعوا فيه)، فما بالك بمن صلت عليه عشرات الآلاف، ودعت له دولة كاملة، وبكاه وطن بأسره.
ومهما قلنا عن الراحل اعلي ولد محمد فال، في جميع مراحل حياته التي كانت زاخرة كلها بالبذل والعطاء، فلن نفي بحقه، ولن نأتي على عشر مناقبه وخصاله.
ولعل خير عزاء في رحيله ما جادت به قريحة أمير الشعراء محمد ولد الطالب عندما قال :
غمر الحزن ذروة العلياء = :=وبكى المجد فارس الصحراء
وروت عن عليها كل فضل = := وفخار وعزمة وإباء
عن فتى ثابت الجنان كريم = := يتمشى كالليث في الهيجاء
عرف العز يافعا ونمته = := للمعالي شهادة الأعداء
نجل فال من محتد الشرف = := الفذ ونسل الأرومة الشماء
كان كالسيف في الحروب مضاءا = := وضياءا كالبدر في الظلماء
طاهر القلب لايبيت بغل = := ساهرا أو يخوض في شحناء
ولئن كان الموت غيب وجها = := من جمال الأفعال والأصداء
فستبكي عليه سمر العوالي = := وبنود الكتيبة الحمراء
وستبكي مواثق العهد عهدا = := من شموخ وطيبة ووفاء
وستبكي عرى الندى وسأبكي = :-= والقوافي لو كان يجدي بكائي
أيها الشهم إن شنقيط ضاقت = := بثياب الحداد يوم العزاء
ودعت فيك قائدا عربيا = := هاشمي الأجداد والآباء
ودعت فيك ماجدا ما توانى = := عن أداء وخدمة وعطاء
أخوة الحرف عذر شعري وبوحي = := هكذا فعل الحزن في الأحشاء
رحل الشهم عن سمانا فقولو = := رحم الله فارس الصحراء
أمربيه ولد الديد