في إطار اتفاق بين نقابة الصحفيين الموريتانيين وجامعة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي درست وتوجت تخرجي بماستر في الحضارة والإعلام اليوم بدرجة ممتاز على إثر نقاشي رسالتي التي كانت بعنوان: "الديمين من خلال كلام وطبع وعادات أولاد ديمان" دراسة تاريخية اجتماعية أنتروبولوجية لمجتمع قبلي عربي إسلامي في الجنوب الغرب الموريتاني من بداية القرن ١٧ إلى نهاية القرن ٢٠".
هذه الرسالة التي هي خلاصة أبحاث عن الديمين سودتها قبل عشرين سنة، ومن الله تعالى علي بالتفرغ لها وإكمالها هذه السنة.
وهذا هو تقرير نقاشها:
ما يزال المجتمع البيظاني يشكل أرضية خصبة في مجال البحث، رغم الدراسات والبحوث الكثيرة التي أنجزت حوله حتى الآن. كما أنه ما يزال يعاني من عدم التكافؤ في موضوعاته، فقد اتجهت أغلب البحوث والدراسات المهتمة بالمجتمع البيظاني إلى الجوانب التاريخية والأدبية والدينية فيه، فيما أغفلت الجوانب الاجتماعية والأنتروبولوجية. وهذا أحد الأسباب التي جعلتني أهتم بدراسة الديمين لسد النقص الحاصل في هذا الصدد، وإن كنت لم أغفل الجوانب التاريخية والأدبية فيه.
إن هذا البحث يهدف إلى دراسة الديمين (=استدمين) في المجتمع الديماني الذي هو أحد المجتمعات القبلية التي تسكن في منطقة إيگيدي الموجودة في عمق الجنوب الغربي للگبله.
والديمين نسق اجتماعي وثقافي وأخلاقي تميزت به هذه القبيلة وباتت معروفة به، حتى إن الفرد أصبح يكفي أن يكون من قبيلة أولاد دیمان لكي يعتبره الناس "متديمنا"، ويبحثوا في كل ما يصدر عنه، ولو كان بريئا، عن أي أثار محتملة للديمین.
ولا شك أن صعوبات عديدة اعترضتني في سبيل إنجاز هذا العمل منها افتقار المصادر والمراجع التي بين يدي لرؤية شمولية لمفهوم الديمين، مما حتم علي التأسيس لهذه الرؤية في هذا البحث. ومنها غياب خيط ناظم لشتات مواضيع الديمين، مما استوجب مني أن أوجد هذا الخيط عن طريق بناء منهج جامع لمختلف المواضيع ذات العلاقة بالديمين. ومنها كون أغلب مصادر ومراجع هذا البحث غير توفر، ويحتاج إلى جهد مضن للحصول عليه. ومنها صعوبة إعادة قولبة مواد كتبت وفق منهج تقليدي لأغراض متباينة في قالب منهجي معاصر، واستثمارها وتحليلها للخروج منها بخلاصات علمية مفيدة ومنسجمة ومترابطة.
ولهذه الأسباب فقد اعتمدت تقسيما منهجيا يستوعب، لا مجرد ظاهرة الديمين من خلال كلام وطبع وعادات أولاد ديمان فحسب، بل وأيضا أطرها الاجتماعية والانتروبولوجية، وسياقاتها وملابساتها التاريخية والجغرافية والثقافية، والعوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أثرت فيها، فبدأت البحث بفصل خصصته لتأطيرات عامة اجتماعية وأنتروبولوجية، عرفت من خلالها بجملة من المفاهيم الضرورية للتعامل مع الموضوع، هي: النسب، والقبيلة، والتقسيم الفئوي الوظيفي، والأنساق السياسية.
حيث أوضحت من خلال هذا الفصل أن النسب في المجتمع البيظاني ما يزال مرتبطا بإيديولوجيا القبيلة وديناميكيتها العصبية أكثر من ارتباطه بتراثها وتاريخها، مما يجعل من الصعب التعرض له بالدراسة والنقد الموضوعيين، ولذلك لم أركز عليه إلا من حيث هو موروث تاريخي أو هوية تتحد من خلالها للشخص مكانته، وحقوقه، وواجباته، وطلباته، وثروته في المجتمع، الأشياء التي تعتمد بشكل كبير على علاقات نسبه بالآخرين.
كما أوضحت من خلاله أن العصبية التي تظهر بفضل تضامن المجموعات القبلية التي تشترك في خطوط قرابية موحدة حقيقية أو مفترضة تمثل آلية القبيلة الأساسية التي تحمي بواسطتها أعضاءها، وإقليمها، وممتلكاتها المادية: (الثروة/ الريع/ الجباية...إلخ)، والمعنوية: (النسب/ الشرف/ السمعة/...إلخ).
ولعلنا نتبين من قول ابن خلدون: «ومن كانت عصبيته لا تدفع عنه الضيم، فكيف له بالمقاومة والمطالبة وقد حصل له الانقياد للذل والمذلة» السبب الذي جعل المجموعات التي تتم هزيمتها هزيمة نهائية في المجتمع الانقسامي تتخلى عن أنسابها كما تخلت عن أقاليمها وسائر ممتلكاتها، لأن «المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها»كما قال ابن خلدون، فلم تعد الأنساب ذات جدوى بالنسبة إليهم، لأن النسب إذا لم يجد عصبية تحميه وتدافع عنه لا يزيد عن كونه تراكمات كمية لمجموعة من الأسماء البشرية عديمة الجدوى الاجتماعية.
ثم أوضحت كيف أن التقسيم الفئوي الوظيفي الذي عرفه المجتمع البيظاني كان استجابة لأوضاع اجتماعية وثقافية واقتصادية خاصة في هذه المنطقة السائبة المترامية، التي ظلت دوما -أو لفترات طويلة- تفتقر إلى سلطان مركزي جعلها تحتاج إلى مثل هذا التقسيم الذي استطاعت بواسطته أن تنتج إطارا يضمن لها ثلاثية (الحماية/ التعليم/ الإنتاج) الضرورية لبقائها واستمرارها وفق نمطها الذي عرفت به. ويتضح من خلاله أيضا أن هذا التقسيم كان سابقا لمقدم بني حسان كما يتضح من الأدلة التاريخية التي استعرضناها في محلها من هذا البحث.
وبعد ذلك درست الأنساق السياسية لهذا المجتمع الذي يعتبر بأنه من المجتمعات الانقسامية التي تصنف -عموما- بأنها "مجتمعات بلا رئيس" تديرها جماعة الحل والعقد، وكيف أن هناك نسقين سياسيين عرفهما هذا المجتمع بدرجة متفاوتة هما نسق الإمارة ونسق الإمامة محللا كيف تم الانتقال من نسق القبيلة إلى نسق الإمارة أو الإمامة اللذين هما شكل من أشكال الدولة؟ وهو سؤال لا تبدو النظرية الانقسامية مهيأة للجواب عنه، حيث تركز النظرية الانقسامية على الاهتمام بإبراز "النمو المتوازن" للمجموعات أكثر من اهتمامها بالتناقضات التي ربما تحصل خلال هذا النمو، إذ يحول هذا التوازن –وفق النظرية الانقسامية- دون بروز أية تمايزات من شأنها أن تؤدي إلى إعادة ترتيب ينتج عنه انبثاق سلطة سياسية مستقلة، وبهذا تكون المجتمعات الانقسامية تحمي نفسها فعلا ضد الدولة، في حين يجب البحث عن تفسير لهذا الانتقال في جوانب أوسع من تلك التي تركز عليها النظرية الانقسامية عادة، كما فعل عبد الودود بن الشيخ الذي يعتقد أن هذا الانتقال تم بالنسبة للإمارة على مستوى مجتمع البيظان نتيجة لتداخل عوامل أربعة فيما بينها هي: العوامل الطبيعية والاقتصادية/ التجارة (الصحراوية- الأطلسية)/ القرابة/ الإسلام، في حين نجد لدى ابن خلدون تصورا يقوم على أن المنافسة أوالحرب التي تخاض داخل القبيلة أو ضد القبائل الأخرى تمثل الوسيلة التي من خلالها تظهر وتهيمن بواسطة عصبيتها الخاصة بها هذه الأرستقراطية على مثيلاتها داخل القبيلة، لأن الصراع ضد الآخر يدفع تقاليد التضامن إلى الاستمرار، «ثم إذا حصل التغلب بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها»، ليقود ذلك بعد عدة أطوار عددها ابن خلدون واستعرضناها إلى قيام الملك».
وبينما نجح نسق الإمارة في هذه البلاد فشل نسق الإمامة خلال عهد أولاد ديمان الذي لا يختلف عن نسق الإمارة إلا بما يسميه ابن خلدون «الاجتماع الديني» بسبب انقسام الزوايا وعدم خبرتهم العسكرية.
أما الفصل الثاني الذي خصصته للمهاد التاريخي فقد استعرضت فيه السياقات التاريخية والجغرافية والثقافية لأولاد ديمان، مظهرا من خلال السياق التاريخي كيف أن أسلاف أولاد ديمان البعيدين كانوا جزءا من المجموعة اللمتونية التي نزحت من المغرب بعد انهيار الدولة المرابطية إلى الصحراء هم وقبائل إيشكي وبيشكه (التي تنطق بالحسانية ببيلكه) وابدوكل وتندغه وإيدوعيش.. وغيرهم متتبعا مسارهم حتى ظهور أسلافهم القريبين المعروفين بالتونكليين.
وفي السياق الجغرافي عرفت بإيكيدي وحدوده، وأهم قبائله، مستشهدا بالوثيقة التاريخية التي تتحدث عن سبب سكنى تشمشه لإيكيدي وقسمته بينهم بفضل القاضي المختار بن أشفغ موسى اليعقوبي.
وفي السياق الثقافي ناقشت التأثيرات المحتملة للمذهب الأباضي في مجموعة من المفاهيم المرتبطة بموضوعنا كمفهوم القبلة الذي بينت إلى أنه يرجع إلى دلالة دينية قبل أن يكون ذا دلالة جغرافية، ومفهوم تشمشه الذي أوضحت أنه كان تقليدا أمازيغيا قديما استلهمه الأباضيون، ومصطلح ديمان الذي يعني لدى الأمازيغيين "الرئيس الهادئ، وكذلك مصطلح "أمغر" الذي حمله أحد موسسي تشمشه هو مهنض أمغر جد أولاد ديمان وكان مصطلحا رئاسيا مستخدما لدى قبائل التحالف الخماسي الأمازيغية قديما.
كما استعرضت في هذا الفصل ظهور مكونة التونكليين الأسلاف القريبين لأولاد ديمان، والفوضى السياسية التي سرعان ما عصفت بكيانهم الذي تفرق بسبب الحروب حيث كانوا أهل سلاح بين قبائل المنطقة.
ثم تشمشه التي حملت شعار العلم الأعزل تفاديا لما لحق التونكليين من اندثار بسبب دخولها في الحرب والفوضى السياسية.
ثم حركة الإمام ناصر الدين التي حملت شعار العلم المسلح، وحاولت تأسيس دولة إمامية لكن حرب شرببه أجهضت مشروعها، مناقشا مختلف القراءات التي أعطيت لهذه الحرب مناقشة توفيقية بين ما ذهب إليه كل من محمد المختار بن السعدمن أن هذه الحرب كانت عبارة عن «صراع طبقي على المصالح المادية والسياسية»، وعبد الودود بن الشيخ من أنها كانت «صراعا بين مديري الغيب ومسيري العنف»، ومحمذن بن باباه الذي رأى أنها كانت«صراعا بين النظام والفوضى»، متوقفا عند مآلاتها وأسبابها.
وأخيرا استعرضت ما صار إليه أولاد ديمان بعد حرب شرببه، وكيف أن الوئام ساد سريعا بينهم وسائر الزوايا الذين كانوا معهم وبين الطرف الآخر أولاد أحمد بن دامان وسائر المغافرة الذين كانوا معهم حتى كأن لم يكن بينهما شيء، إلى درجة أن سيدي عبد الله بن رازگه العلوي كان صديقا للأمير اعلي شنظوره بن هدي بن أحمد بن دامان، ورفيقه إلى الملوك المغاربة، وراثي أخيه الأمير أعمر آگجيل بن هدي من قبله، مع أن ابن رازگه ابن أخ القاضي سيدي الحسن العلوي الذي هو أول من دعا الزوايا إلى حرب هدي والد اعلي شنظوره، وكان المختار بن أشفغ موسى اليعقوبي رغم أنه ابن خالة قائد الزوايا الإمام ناصر الدين الديماني قاضيا لاعلي شنظورة ابن قائد الترارزة في شرببه هدي بن أحمد بن دامان ومستشارا له. ودفن أولاد أحمد بن دامان أمير الترارزة عاليت بن المختار بن أعمر بن اعلي شنظوره بن هدي بن أحمد بن دامان مع الإمام ناصر الدين بترتلاس، كما دفنوا الأمير أعمر بن المختاروالد الأمير محمد الحبيب مع أحمد بن العاقل الديماني بانبنه بوصية من الأمير.
مرجعين أسباب هذا الانتقال السريع المخالف للمألوف من الحرب إلى الصداقة إلى قوة العلاقة التي كانت سائدة بين الطرفين قبل الحرب، وإلى أن الزوايا لم تتفق كلمتهم عليها ولم يحاربوا كلهم، فأكثر إيدابلحسن وتاشدبيت مثلا لم يشاركوا في شرببه، كما أن الفاللي بن بابحمد الديماني لم يشارك فيها، وباركلل بن أحمد بزيد اليعقوبي اعتزلها، وخليفة ناصر الدين الأول أشفغ الأمين بن سيدي الفاللي الديماني الذي عزله الزوايا بعد دعوته إلى وقف الحرب ومصالحة بني حسان انسحب منها، وانسحب بانسحابه ثلث الجيش وهادنوا المغافرة وآخوهم، وتزوج فاطمة بنت اعلي بن أحمد بن دامان التروزية (ابنة أخ هدي بن أحمد بن دامان قائد الترارزة في شرببه)، «فكره زواجه عامة الزوايا وخاصتهم، حتى هجره الفاللي بن بابحمد، وكان صديقه ومن خاصته فاعتذر له بأنه يريد كهفا للزوايا يلجأون إليه إذا غلبهم المغافرة»، فنشأ عن ذلك مناخ استوعب بسرعة الشرخ الذي أحدثته الحرب بين الطرفين، كما أن حاجة كل من الطرفين للآخر: بني حسان بوصفهم سدنة للسلطة السياسية، والزوايا بوصفهم سدنة للسلطة العلمية، عجلت من هذا الانتقال من الحرب إلى الصداقة، وفرضت على كل منهما تجاوز ما حدث، والتركيز على دوره المكمل لدور الأخر.
أما الديمين نفسه...
يتواصل