نشر الدكتور ديدي ولد السالك مدير المركز المغاربي للدراسات الاستيراتيجية الورقة المرجعية لندوة أمس التي أوقفتها الشرطة ، و كتب ولد السالك على صفحته
ننشر فيما يلي؛ الورقة المرجعية لندوة:
(الانتقال الديمقراطي في موريتانيا : بين أداء النخبة ودور الحاضنة المؤسسية)؛ التي اوقفتها السلطات الحاكمة في نواكشوط أثناء انعقادها يوم أمس بفندق وصال ؛
للجمهور الكريم؛ ليعرف ما مدى تهديدها للأمن الوطني ؟
علما أن هذه الندوة كان سيحاضر فيها أساتذة من ألمع النخبة الموريتانية؛ وهم على التوالي:
الدكتور بدي ولد ابنو
الدكتور سيد عمر ولد شيخنا
الأستاذ يعقوب ولد السيف
ويتولى إدارتها الدكتور ادوم ولد محمد الأمين.
نص الأرضية.
في سنة 1994، تساءلت المجلة الدورية المحكمة "السياسة الإفريقية" هل تعيش موريتانيا تحولا ديمقراطيا؟، وها هو نفس السؤال يظل مطروحا بعد قرابة ثلاثين سنة، لكن بدون إجابة قاطعة.
يتذكر الجميع، عند انطلاق ما عرف بالمسلسل الديمقراطي في موريتانيا سنة 1991، بأن أكثر المتفائلين آنذاك، لم يكن يتوقع نجاحه بشكل كامل، باعتباره جاء تعبيرا عن إرادة أجنبية أكثر من كونه تعبيرا عن مطلب داخلي ضاغط من قبل النخبة الوطنية، نظرا لضعف الوعي الثقافي والسياسي في أوساط المواطنين، وقلة الخبرة السياسية والفقر في قيم وتقاليد الدولة، لكن أكثر المتشائمين لم يتوقع حجم الفشل الذي آلت إليه تجربة الانتقال الديمقراطي في موريتانيا، بدليل تكرار نوبات الاحتقان السياسي وما صاحبها من تجدد للانقلابات العسكرية، التي تجهض المسار السياسي في منتصف الطريق في كل مرة، وهو ما ينعكس حاليا في مستوى الازمة الشاملة التي تحاصر البلد من كل النواحي، وتراجع أوضاعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل إن أغلبية المؤشرات تحيل إلى قرب انفجار الأوضاع في موريتانيا، إذا استمرت الأمور على ما هي عليه من تفاقم وانسداد.
يلاحظ المتتبع لتجربة الانتقال الديمقراطي في موريتانيا، التي بدأت مع مطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين، أنها ظلت تراوح مكانها، ووصلت إلى طريق مسدود بفعل التعثر الذي صاحبها منذ انطلاقها، حيث ظلت تعيد انتاج نفس مخرجات الانتخابات المشكوك في مصداقيتها، مما يزيد في تعميق الاحتقان السياسي؛ بل إن الأخطر من كل ذلك هو إعادة تجديد وتكريس قيم ما قبل الدولة الوطنية، كعودة الخطاب القبلي والاثني وإنتاج الخطاب الشرائحي، المعبر عن الهويات الصاعدة، بديلا عن الهوية الوطنية الجامعة، التي كان من المفروض أن تتحدد من خلال المواطنة، بوصفها الرابطة المجسدة للمشترك بين مختلف أفراد الدولة والمجتمع، التي ينبغي أن يعامل الإنسان على أساسها بعيدا عن أي اعتبار آخر.
إن هذه الوضعية الحساسة تستدعى من الجميع التوقف من أجل التأمل في الأسباب والعوامل التي ساهمت في تعثر تجربة الانتقال الديمقراطي، وتراكم الفشل والتأزم على مختلف المستويات، وعند فحص تلك العوامل ومراجعتها بعين الناقد، سيتضح بأن على رأسها دور النخبة، التي يخترقها الفساد أفقيا وعموديا، مما جعلها تدعم الانقلابات العسكرية، العدو الأول والأخطر لكل قيم الممارسة الديمقراطية، واصطفاف أغلبية تلك النخب إلى جانب كل واصل لرئاسة السلطة التنفيذية، مهما كان مشكوكا في شرعيته أو الطريقة التي وصل بها للحكم، مع الحماسة المستمرة في أوساط تلك النخبة بالتنظير للحاكم العسكري والتفاني في خدمة حكمه، رغم استبداد وفساد الأنظمة العسكرية المتعاقبة على الحكم منذ 1978 إلى اليوم، بغض النظر عن الشعارات البراقة التي كانت ترفعها في كل مرة.
في حين بينت تجربة العقود الأربعة الماضية، أن الانتقال الديمقراطي لا يمكن أن ينجح في أي بلد من بلدان العالم، إذا لم تكن هناك نخبة تسعى من أجل تكريس الممارسة الديمقراطية وتعمل باستمرار لترسيخ قيمها ومبادئها في مختلف البنى الاجتماعية والثقافية والمؤسسية.
ويميز المفكر الكامروني المعاصر "آشيل امبيمبي"، ثلاثة عناصر تعرقل التحول الديمقراطي في القارة الإفريقية هي: فشل الدولة، وعدم تصنيف الاقتصاديات، وتقاعس المثقفين الأفارقة عن التفكير في نموذج إفريقي لتوطين الديمقراطية في القارة.
أما في بلادنا، فقد تنبه مبكرا الباحث الموريتاني المتميز "زكريا ولد احمد سالم ولد الدنه" إلى مقولة "وهم الديمقراطية" في موريتانيا، حيث يقترح تحليلا يكشف لعبة الديمقراطية كآلية سمحت بتمرير الليبرالية الاقتصادية وبإعادة إنتاج الاستبداد، لتسقط في "وهم" ما بعد الاستعمار، من خلال الكشف عن التناقض الأساسي في هذه العملية والمتمثل في تواطؤ الحكومة والمواطنين العاديين في اللعبة.
وقد أظهرت تجربة العقدين الماضين في موريتانيا بعد انطلاق مسار الانتقال الديمقراطي، بأن أغلبية النخبة الموريتانية لا تؤمن بقيم الديمقراطية، مما حال دون ترسيخ الممارسة الحزبية، باعتبار الأحزاب هي العمود الفقري للعمل السياسي، والحاضنة الطبيعية للتدرب على الممارسة الديمقراطية واكتساب قيمها.
لكن عدم تشبث أغلبية النخب الموريتانية بقيم الديمقراطية، يتجلى اليوم بشكل أكثر وضوحا، بمطالبة بعض تلك النخبة بانتهاك الدستور وتعديله لصالح بقاء النظام الحالي، الذي تنتهي مأموريته بمقتضى الدستور في منتصف 2019، وهو ما يعني القضاء على أهم مكسب حققه الشعب الموريتاني خلال مسيرة الدولة الوطنية، أي ضمان التناوب السلمي على السلطة عبر تحصينه دستوريا.
أما العامل الثاني الذي بينت التجربة، أنه ساهم في تعثر تجرية الانتقال الديمقراطي في موريتانيا إلى جانب دور النخبة في ذلك، فهو ضعف البنى المؤسسية في الدولة الموريتانية، لأن الممارسة الديمقراطية، تحتاج إلى منظومة فكرية ترسخ قيمها، إلى جانب بنية مؤسسية متخصصة تحتضنها وتسيرها، في إطار مؤسسات وهياكل الدولة الوطنية، بينما يغلب على البنية المؤسسية للدولة في موريتانيا الضعف والهشاشة البالغة، مما يفتح الطريق إلى حضور الشخصنة على حساب الالتزام بالنظم القانونية الحاكمة، وسيادة الارتجال والمزاجية على حساب العقلانية في التدبير والتخطيط للمستقبل.
أمام هذه الوضعية، وسعيا إلى الارتقاء بالجدل العام حول القضايا الوطنية إلى مستوى النقاش العمومي، يقترح المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية، تنظيم حلقة علمية للنقاش حول موضوع: (الانتقال الديمقراطي في موريتانيا : بين أداء النخبة ودور الحاضنة المؤسسية)، في أفق المنعرج التاريخي الذي ستعرفه البلاد مع الانتخابات الرئاسية 2019، من أجل مساءلة العوامل التي أدت إلى تعثر تجربة الانتقال الديمقراطي خلال العقود الثلاثة الماضية، عبر دعوة مجموعة من الخبراء وأهل الفكر، لمناقشة وتحليل تلك العوامل من جميع جوانبها، من أجل الخروج بدروس وخلاصات علمية ضرورية ومفيدة، لعلها تساهم تسليط الضوء على جبل الجليد الذي تواجهه مشاريع التحول الديمقراطي في موريتانيا و ما يطرحه ذلك من تحديات تتعلق باستقرار البلاد والحفاظ على السلم الأهلي، وكسر قيود الحلقة المفرغة التي تسير فيها منذ بداية المسار الديمقراطي في سنة 1991 حتى اليوم.