في أقصر مدة من الزمن يمكن تحويل لحظات اليأس الكبير إلى آمال فسيحة متى توفرت الحدود الدنيا من الإرادة السياسية الصادقة تفرض بقوتها الناعمة والمدعمة، إيقاف التخاذل الوطني وترميم الضمائر الممزقة وتغيير معسكرات الخوف والرعب والكراهية للعودة بأصحابها إلى أفياء مجتمعهم الطبيعي الرافض بفطرته لخطاب الكراهية والانتكاس الذي يمثله، وقد قدم الخطاب منه عبر التاريخ الحديث والراهن نماذج متنوعة في بلدان عديدة أصبحت فيها الوعود اللفظية حقائق ملموسة ومرعبة.
أول مؤشرات توفر الإرادة هو وقف ما اتبع من آليات في العقود الأخيرة بَرَعَ اصحابها في فنون المناورات الصغرى أكثر مما تعودوا على اتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبرى، ومن البداهة أن أول تلك القرارات الاستراتيجية هو محاربة الانحراف على مستوى الدولة واتساع الإهمال والتهاون والميوعة مع قوانين الجمهورية، خصوصا المرتبط منها بمكافحة جريمة الرق ومخلفاته، فلا يمكن لدولة ذات دستور وقوانين يحددان شكلها ويضبطان توجهها أن تكون حيادية بين من ينتهك تلك القوانين وبين من وضعت لحمايته وحماية حقوقه وكرامته، ولا يمكن لدولة تريد ترسيخ عناصر الانسجام والوحدة والسيادة الوطنية والاستقرار والهدوء والوفاق أن تكون قوانينها المرتبطة بأول ضامن لذلك كله وهو العدالة الاجتماعية عرضة للتلاعب والتعطيل من طرف معسكر التخلف والغباء العميق وقواه وتقاليده المتمترسة في جهاز الدولة الإداري والأمني، الواقفة إلى اليوم حاجزا سميكا دون إعطائه لنفسه قواعد صالحة لمواكبة خطوات مجتمع يشهد مرحلة تحولات عميقة، وتتقدم دولته الحاضنة لتحتل مساحة اكبر ضمن الرهانات الاقليمية والدولية المرتبطة بمنطقته من جهة أمنها واستغلال ثوراتها وتنامي حساسية موقعها الاستراتيجي على أصعدة متعددة.
فالإدارة والأمن اليوم يحتاجان وعيا بهذه الحقيقة ومغادرة كهوف انحسرت قواعد ضبطها في السابق في الترهيب وعرض العضلات وتلفيق التهم والتنكيل بخصوم الأنظمة وسجنهم بل تصفيتهم.
كما أن ثاني الخطوات الاستراتيجية هي وقف الانبثاق المفاجئ في الساحة لما ستسفر مواصلته عن اختناق ووقف تتطور مسارنا الديمقراطي من حركات سِرْكٍ تحتل مشاهده ـ غير المسلية ـ فضاءنا العمومي رغم ما تمثل في حقيقتها ومراميها الفعلية من اجهاز على مرجعيات البلاد الدستورية والأخلاقية والقانونية، إذ ليس من الحصيف أن يستمر التغاضي عن أمر صريح المخالفة للدستور، وتم تجاوزه بوعود قاطعة قدمت للكافة أكثر من مرة، وأقل حصافة من ذلك ان توضع ملفات البلاد الاساسية جنبا الى جنب مع امور تخضع لاعتبارات ظرفية عابرة ويشكل مضمون بعضها نقطة خلاف كبير، بل محل رفض مطلق حتى من داخل معسكر الحكم نفسه.
وحين ما تُوقَفُ الاجراءات الإحادية بغض النظر عن صحة مضمونها وتتخذ بدلا منها خطوات تتشبث بالاجماع في الأمور الجامعة وأولها دون شك الدفاع عن الدستور واحترامه ووجوب محاربة خطاب الكراهية والعنف الملتبس بمشهدنا العمومي، سنكون قد وضعنا قطار التوافق في الامور الكبرى على سكته ويمكنه اخذ سرعته القصوى في امد قصير.