أريد من خلال هذا المقال أن أقدم رأيا وأن أناقش موضوعا وأن أتأمل في بعض المواقف، ومع ذلك لا أرغب في الإسهاب لئلا أشتت الأفكار وأزرع الملل...
أريد أن أناقش موضوع المأمورية الثالثة، وأن أقدم قراءة لبعض المواقف الجديرة بالتّأمل التي تطبع قرارات إخوتنا في المعارضة الديمقراطية، لأخرجَ من بين مداد هذه القراءة ومخرجات ذلك النقاش برأي خالص لا علاقة له برغبتي في المأمورية الثالثة، لأني في هذا المقال لن أنظر الأمر بعين الراغب التي ترى الأشياء مليحة، وأود بالمقابل أن يُبعد المتشبثون بالمأموريتين النظرات الراغبة في حُكم لا مكان فيه لهذا الرئيس وهذا التّوجه، لأننا بهذه النظرات سنتّفق على مسائل ونختلف على مسائل وسنصل في نهاية المطاف إلى موقف موحدٍ من المأمورية الثالثة...
يرى المتشبثون بالمأموريتين أن دستور البلاد نص بشكل واضح على مأموريتين اثنتين لرئيس الجمهورية وأن الدستور أغلق المجال أمام أي نقاش حول هذه المادة بشكل خاص، وأن معظم البلدان الديمقراطية تحترم هذا التقليد الدستوري، وأن محاولات تغيير المأموريات أحرقت العديد من البلدان الإفريقية، وأن المواطنين الموريتانيين بمن فيهم الموالون يرغبون في احترام المادة المتعلقة بالمأموريتين، ولن يدعموا الرأي القائل بفتح المجال أمام مأمورية ثالثة، وأن دعاة تعدد المأموريات بمن فيهم من موظفين سامين وقادة رأي وفكر هم أشخاصٌ يشاكسون ويشاغبون، وأنهم بمطالباتهم المتكررة يتورطون في موضوع يمكن تكييفه كما لو كان جريمة ضد الأمة؛ ويرى الراغبون في زيادة عدد المأموريات أن ترسيخ الإنجازات وصيانة المكتسبات التي تحققت إبان فترة الرئيس في كافة المجالات، وتأمين البلد من الأخطار التي تتهدده يقتضي مواصلة المسار، وأن كل مواد الدستور قابلة للتغيير متى لوحظ أن مصلحة البلد تتطلب تغييرها أو تحييدها، وأن غالبية الموريتانيين يدعمون هذا الرأي، وأن المتشبثين بالمأموريتين فئة قليلة تتعاطى مع الأشياء برؤية بعيدة عن الموضوعية...
يعيدنا هذا الجدل إلى الانتخابات الرئاسية الماضية التي قاطعتها معظم الأحزاب السياسية، واعتبر قادتها - لاحقا - أن مخرجاتها غير شرعية، وساروا على ذلك الاعتبار فترة، رغم أنهم يشاركون في برلمان يُستدعى من طرف الرئيس الذي أخرجته تلك الانتخابات، ويُسيرون مجالس بلدية تعمل تحت وصاية الحكومة التي يُعيٍنها، ويُناقشون وزراءه ويُسائلونهم!
تعيدنا هذه الحلقة كذلك إلى مشروع القانون القاضي بتغيير بعض مواد الدستور الذي رفضه غالبية أعضاء مجلس الشيوخ وتم تقديمه إلى الناخبين الموريتانيين من خلال استفتاء قاطعته أحزاب المعارضة، وتمت إجازته بعد حصوله على نسبة مئوية معتبرة.
أقرت تلك التعديلات الدستورية التي قاطعتها المعارضة جملة مواد دستورية من ضمنها اعتماد غرفة برلمانية واحدة هي مجلس النواب، ومنح صلاحيات تغيير الدستور لأعضاء هذه الغرفة، وتنفيذا للمخرجات الدستورية لذلك الاستفتاء نُظّمت انتخابات بلدية وتشريعية أسفرت هذه الانتخابات عن اختيار رؤساء وأعضاء المجالس الجهوية، وشاركت كل أحزاب معارضتنا الديمقراطية في هذه الانتخابات وتحالفت في العديد من المدن في اعتراف صريح وواضح بمخرجات الاستفتاء الدستوري الذي أقرّ هذه الانتخابات وأجاز للنواب مسألة تعديل الدستور...
أعتقد أننا أمام نص دستوري واحد لا يمكن أن نحترم بعضه ونسخر من بعضه، وأعتقد أيضا أن الإخوة في المعارضة كانوا سيسمحون لنوابهم بالتصويت ضد أي مشروع قانون يقدمه نواب الموالاة لو حصلوا على العدد الكافي من النواب الذي يضمن عدم إجازة مشروع قانون مُعين، وأنهم كانوا ينوُون تغيير العلم الوطني لو أنهم حصلوا على ثلثي أعضاء مجلس النواب كما كانوا يجزمون...
بناء على ذلك؛ دعونا نفكر وفقاً لمنهج واضح مبني على أسس قويمة عمادها النصوص والقوانين ومعينها الاعتراف بالفشل وسلاحها صوت المواطن وإرادة الناخب، وألاّ نرفض لغيرنا ما نسمح به لأنفسنا...
أدعو كُتّابنا وسياسيينا وقادة الرأي فينا بالدعوة لكل ما يرونه حقا وعدلا، وأربأ بهم عن الرّضوخ لأصوات نشازٍ تريد أن تُصور الداعي للمأمورية الثالثة كما لو كان ظالما يعتدي على الآخرين، وهي صورةٌ قاتمة مشوّهة شبيهةٌ بما يعتقده البعض عن الداعين إلى الخير فيصورونهم كما لو كانوا أناسا يعتدون وأنهم يتدخلون في أشياء لا تعنيهم وينصحون أشخاصا لا علاقة لهم بهم، دون أن يُدرك هؤلاء المنزعجون أن الدعوة إلى الخير مبدأ أساسي وحق طبيعيٌ أسست عليه هذه الملة.