لا حديث هذه الأيام يعلو فوق الحديث عن بداية العمل في البرلمان الجديد وتشكيل الحكومة ومآلات الحرب المفتعلة على الإسلاميين. فلا أحد تقريبا يفكر فيما هو أبعد مدى من ذلك وأهم مثل المدرسة التي تشكل غرفة الانتظار الطبيعية للسياسة والاقتصاد والأمن. فقد صرف المعارضةَ التفكيرُ في السياسة عن الاقتصاد والأمن، وصرف الحكومة التفكير في الاقتصاد والأمن عن التفكير في السياسة لكن ما من أحد يفكر في الاقتصاد والأمن الحقيقيين ولا في السياسة بمفهومها الصحيح.
القاعدة تقول بأن الضروري قبل الكمالي ونحن الشعب الوحيد الذي يمكنك أن تتصرف على عكس القاعدة دون أن ينكر عليك أحد ما تقوم به, نسلك منذ نشأة الدولة تقريبا مسارا عكسيا في السياسة والاجتماع يتناقض مع السنن الكونية ومع يمكن أن تراه في سائر الدول والمجتمعات :
نقتني السيارات الفخمة وليس لدينا عنوان أو مسكن لائق يؤوينا !!
نخبتنا تتمدد أيديولوجيا عبر المجال ولا يهمها إعداد المجال الخاص بها في هذا البلد الذي لا تزال آثار انسحابها بادية عليه !!
مسؤولون كثر يبدأون بالوظائف السامية في الدولة ثم يفكرون لاحقا في الحصول على مؤهل علمي ملائم لدفع الحرج لا أكثر !!
نبدأ بمدارس الامتياز قبل أن نضمن التعليم للجميع كما وكيفا !!
نبدأ العمل بالغرفتين ليؤول بنا الأمر في النهاية إلى غرفة يتيمة هي محل غمز ولمز من أطراف عديدة !!
نبدأ بالمائة حزب وحزب وننتهي بحظر الأحزاب الصغيرة بقوة القانون والأحزاب القوية "الخطيرة" بالقوة الغاشمة !!
أليس من الواجب علينا الوصول إلى حد الكفاف في أي أمر من الأمور مهما كان قبل التفكير في الكماليات؟! أليس الضروري أوْلى وأأكدُ من الكمالي ؟!
هناك شيء مشترك بين مدارس الامتياز وبين إرسال الطلاب للدراسة في الخارج : فكلاهما إفقار لمنظومتنا التعليمية الوطنية في الوقت الذي نحتاج فيه إلى تعليم أساسي يمنح حظوظا متساوية للجميع وتعليم عالٍ يتلاءم مع خصوصياتنا وحاجاتنا التنموية.
مدارس الامتياز وإيفاد البعثات الدراسية إلى الخارج باعتماد أسلوب الفرز في الحالتين هما في الواقع تدمير لمنظومتنا التعليمية من الأعلى ومن الأسفل : من الأسفل لأن تجربة مدارس الامتياز تتعارض مع نمط التعليم الذي نحتاج إليه في الوقت الراهن وهو التعليم الجمهوري الذي يمنح حظوظا متساوية للجميع(les même enseignement dans les mêmes conditions) ومع الهدف الذي يجب أن يكون هو الأهم للمدرسة في هذه المرحلة ألا وهو الاندماج الاجتماعي في ظل التمزقات الحالية التي يشهدها النسيج الاجتماعي للبلد؛ ومن الأعلى لأن سياسة التكوين في التعليم العالي والمهني في كل بلد إنما تخضع لخصوصياته التنموية وما يمتلكه من ثروات طبيعية أو بشرية فما فائدة بيطري تكوّن على أمراض البقر في سيبيريا أو فنلندا إذا كان سيعود لمعالجة أمراض البقر في البراكنة أو الحوض؟ أو جيولوجي تكوّن في اليابان على علم الهزات الأرضية وأنظمة الإنذار المبكر بالزلازل إذا كان سينتظر طول حياته قبل أن يجعل معرفته تلك على المحك؟ أليس أولى من ذلك نقل الخبرة وتوطينها لدعم مؤسساتنا التعليمية وتقويتها ؟!
مادامت مدارس الامتياز قائمةً فلن تقوم للمدرسة الجمهورية قائمةٌ لأنها في الواقع إفقار للتعليم وتجذير للفوارق الاجتماعية . كنت أعرف هذه الحقيقة المرة بناء على بعض المعلومات المتوفرة لدي من عملي السابق في الحكومة لكنني خبرتها ورأيتها بعيني ذات صباح عندما زرت أحد المراكز التي تجرى فيها مسابقة دخول إعداديات وثانويات الامتياز في ولاية نواكشوط الشمالية. وعليه فإن ما سأذكره من حقائق يقوم على مشاهدات عينية قد لا يجد الكثيرون ممن زاروا تلك المراكز عناء في تصديقها وبالتالي فهي ليست محل جدال أو مواربة:
حضور شبه مطلق لمكونة اجتماعية واحدة من مكونات المجتمع بل لمكون فرعي واحد من تلك المكونة ذاتها بنسبة قد تزيد على 98 % ! أمر قد لا يصدقه إلا من رآه بالعين المجردة.
قد تكون الأمور مختلفة في مراكز أخرى في العاصمة أو في مناطق أخرى إلا أن هذا الأمر قد يؤدي في حال السكوت عليه إلى تسريع وتيرة تفكك المجتمع الذي يبدو أن بعض القوى في الداخل تعمل عليه بوعي منها أو بدون وعي بسبب عدم إدراكها لخطورة الاستتباعات المترتبة عليه.
وبما أن إيماني بنظرية المؤامرة لا يزال ضعيفا جدا فإنني متأكد بأنه لا يوجد تخطيط مسبق لهذه الوضعية بمعنى التخطيط المقصود من طرف جهة معينة أو أشخاص قرروا ذلك من تلقاء أنفسهم في الزمان والمكان ولكنني وبالمقدار ذاته متأكد أيضا من أن الإبقاء عليها بهذه الطريقة وبهذه الحدة والوقاحة هو انتصار لها وتخطيط وتوظيف بعدي لها.
من الناحية السوسيولوجية المحضة ينتمي المجتمع الموريتاني التراتبي بحكم التكوين والنشأة إلى المجتمعات التي تغيّر المدرسة نفسها وتجعلها منتوجا خاصا لصيرورة المجتمع وتناقضاته الداخلية وبالتالي يقتصر دور المدرسة في هذا النوع من المجتمعات على إعادة إنتاج المجتمع (la reproduction) في مقابل النوعين الآخرين من المجتمعات: النوع الذي تغيّره المدرسة وتعيد تشكيله وفقا لنموذج مأمول، والنوع الذي يغيّر المدرسة نحو الأفضل بتغيره هو.
والحقيقة أن هناك ظروفا موضوعية هي التي أدت إلى الانقسام والتفاوت الخطير على مستوى الحظوظ في التعليم في بلادنا والذي قد يوجد أيضا في ميادين أخرى لسنا هنا الآن بصدد الحديث عنها. فهذه القضية تخضع في نظرنا لنوع من الضرورة الحتمية : نفس الشروط تؤدي إلى نفس النتائج: فما هي الشروط هنا وما هي النتائج ؟
نفس الشروط : كلما وجدت عبودية بدرجة كبيرة ولفترة طويلة من الزمن، نجمت عنها نفس النتائج : سوء في توزيع الثروة وبدرجة كبيرة ينعكس في التفاوت بين مكونات المجتمع في الثروة والسلطة والمعرفة وهي الظروف المثالية لنشأة التطرف والكراهية والتعصب وبالتالي الجنوح إلى العنف.
والحقيقة هي أن الظروف المادية والثقافية ليست هي التي منعت ضحايا العبودية وغيرهم من الفقراء (سواء أكان فقرهم متوارثا كما هو الشأن في العبودية أو عرضيا طارئا كما هو الشأن في الحالات الأخرى) من الاستفادة من مدارس الامتياز بل الحالة الثقافية للأبوين المنتميين إلى الأوساط الدنيا في المجتمع وقد عرفنا من نظريات سوسويولوجيا التربية وخصوصا نظريات العائق السوسيوثقافي عند بورديو (P. Bourdieu) وبيرنشتاين (B. Bernstein) وغيرهما العلاقة الضرورية بين الحالة الاجتماعية والثقافية للأبوين المنتميين إلى الفئات الدنيا وبين الفشل الدراسي المحتوم للأبناء.
وبما أن تشخيص المرض وحده لا يكفي بل لا بد للطبيب المعالج من وصف الدواء أيضا،، وبناء على أهمية الدور الذي تلعبه المدرسة في بناء المجتمعات واستقرارها وتحقيق العدالة بين مكوناتها ودورها المحوري في السياسة والاقتصاد والأمن وفي سائر المجالات الأخرى فإننا سنشرع بعون من الله من الآن فصاعدا في عرض رؤيتنا لإصلاح التعليم في موريتانيا وكشف اللثام عن المشروع الذي كنا قد قدمناه للحكومة من خلال أحد مراكز البحث الاستراتيجي التابعة لها منذ ما يزيد على ثلاث سنوات والذي لم يطبق منه حتى الآن سوى مقترح واحد يتعلق بدمج جامعتي : "نواكشوط" و"العلوم والتكنولوجيا والطب" في جامعة واحدة كان لي الشرف برئاسة اللجنة المكلفة باختيار رئيسها.