في صائفة عام ألفين كنت في حضرة النباغية العامرة بالعلم والتعلم، وذات سمر علمي طلابي من زينة الحياة الدنيا كنا نتطارح الحديث، فكان مما تحدثنا عنه آخر المؤلفات في المجال الشنقيطي طباعة وإصدارا.
وأنبأنا أخونا الملاطف الفضل بن يهديه دام حفظه عزيزا أنه وقف على منظومة جديدة في البلاغة تساير عقود الجمان للسيوطي، وتاقت أنفسنا -في تلهف وشوق-إلى الوقوف عليها، وتزايد ذلك الشوق وتنامى بعد أن أفادناعلما أنها من صنيع يد الشيخ محنض باب بن امين مد الله في عمره المبارك.
كانت النفس مني ممتلئة إجلالا واستحسانا لما تدبجه يد ذلك الشيخ؛ لما وقفت عليه من بدائع أنظامه الفقهية والسلوكية التي ماكانت تفوت الوالد عليه رحمة الله تعالى نسخا أو استنساخا.
فكانت أمنيتي أن أجدها مطبوعة، فبحثت عنها حتى حصلت على صورة منها مخطوطة في مكتبة العلامة الفقيه أَنَّ بن الصَّفِّ برد الله ضريحه.
ولضيق الوقت لم أستطع استنساخها كاملة، بل اقتصرت على نقل نتف متفرقة منها هزت وتر القلب ومست شغاف الفؤاد، وفي الحقيقة لا طاقة لي بوصف ما مسني وقت حصولي عليها وقراءتي لها.
فقرأتها المرة بعد المرة مديم النظر مجيل الفكر مستمرئا الإعادة، كانت تلك هي بداية التعرف على تلك المنظومة.
دارت الأيام دورتها وبعد عقد من الزمن أو أكثر أسند إلي تدريس مادة البلاغة (عقود الجمان) في القسم الجامعي من مركز تكوين العلماء فكانت منظومة الشيخ محنض باب لي خير سند وعون، لا سيما في ساعات العسرة؛ أستفتح بها ما سايرت فيه العقود من المسائل المستغلقة، وربما أنشد على الطلاب مقابل العقود مما عالجه الشيخ في منظومته بنظم أنضر وجها وأوضح بيانا.
ومن الوارد أن الشيخ محنض باب في عمله هذا لم يكن منطلقا من نظم مادة توجد في كتب بلاغية -فالغالب في النظم أن لا يكشف عن غامض ولا يطرق السمع بجديد- بقدر ما كانت همته أن يهذب هذا الفن الذي ظل مجالا متراحب الأطراف متنوع الطرائق مرهوب الجانب لكل من أراد أن يستفيد فيه .
ثم إنه قد أخبرني في الأيام السالفة أخونا الشريف محمد نافع ابن العلامة القاضي شيخي ابين بن ببان نفع الله بعلمه وأنسأ له في الأجل أن منظومة البلاغة في طريقها إلى لبس حلة الطبع الفاخرة، وأنها عما قريب ستتزين بها المكتبات العلمية فزادني ذلك فرحة وحبورا.
ها هي اليوم -والحمد لمستحقه- تتحقق أمنيتي فتخرج المنظومة مطبوعة في حلة سيراء تسر الناظرين، فأهنئ نفسي وزملائي طلاب العلم بهذا العمل الذي هو عون لدارسي علم البلاغة وسيعود علينا كلا بزكاء معرفة وبعد نظر.
وإرجاع البصر في هذه المنظومة يجعلك تقف على نقاط مهمة أعد منها ولا أعددها:
- استيعاب المنظومة للمادة البلاغية المعروفة معاني وبيانا وبديعا.
- معالجتها لها إبداعا وتبويبا وعنونة.
- ما اشتملت عليه من الإحماض النافع في محله.
- النقد العلمي لأي شاهد لم يراع فيه قائله الآداب الشرعية.
- التوجيه الذي لا يفارق الأمثلة المنتقاة ليبقى القارئ مع صلة بسلوك دينه.
- حسن السبك ودقة الأسلوب الذي تعاقبت عليه أبواب المنظومة دون ونى أو فتور.
- ما حازته من تقاريظ صفوة علماء هذه البلاد المختصين في فنها.
كل هذه المسائل تجعل من صدور هذه المنظومة مطبوعة أمرا مرغوبا فيه لا عنه.
هذا عما يتعلق بالمنظومة فما ذا عن الناظم؟
ليس الشيخ محنض بابه برجل مغمور الشأن خفي المنزلة ضائع الذكر، بل إنه حاز بين أقرانه وعصرييه من ذيوع الصيت وجهارة المنزلة ما يجعلني أعرض عن ترجمته والتعريف به والإشهار بمنزلته علما وفهما وصلاحا ولا أزكي على الله أحدا.
ومرد استئثار هذا الشيخ بهذه المنزلة جمعه بين علمي الدين علم الشريعة وعلم الحقيقة
هذ الجمع مكنه من اكتساب سمعة طيبة، إضافة إلى فهم صائب ومطالعة دائمة، ومتابعة للإصدارات العلمية، وسهولة صياغة المسائل العلمية في نظم بديع لا تكاد تمل من تكراره، تطرب لسماعه ويسهل عليك حفظه.
وأي تأليف اجتمعت له هذه الخصائص والمميزات حَرٍ بأن يتقبل بقبول حسن، وأن يستعين به طلبة العلم تتميما للمعرفة، وأن يتخذه العلماء تذكرة لهم.
فالأجر –إن شاء الله - منه للقائمين على طباعته، والشكر منا جميعا لهم.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل