تحويل المصير إلى ضمير.
خاص مراسلون - طرح السؤال أخيرا على أحد الحكماء القلائل ممن يراقبون المجتمع الموريتاني: ما هي مشكلة الموريتانيين؟ فهم لم يكونوا في أي وقت من حياتهم وتاريخهم أكثر عددا وأكثر معرفة وأكثر غنى من هذا الزمن, ومع هذا لم يكونوا أكثر إحباطا, أكثر قلقا على مستقبلهم, أقل رضىعن حاضرهم, أقل إرادة لمواجهة مشاكلهم ومصيرهم مما هم اليوم؟.
يخشى أن تكون الحالة الموريتانية نسخة مصغرة للوطن العربي. التعميم, يغري فعلا من الناحية الفكرية, كمقاربة كشف, إلا أن هذا التعميم لا يبقى مجديا إذا أردت أن ترفع به الوضع القطري, رياضيا بقوة x لإدراك الوضع العربي العام.
إذا كان العرب هم بدورهم, لم يجدوا أنفسهم أكثر عددا وأكثر معرفة وأكثر غنى مما هم اليوم, فإن الميكانيكياوالروح المحركتان لهم تختلفان جذريا, ليس فقط في الدرجة ـ بل في النوع أيضا ـ عن السائدتين في قطر معين, مع ضرورة تحديد أي قطر نعني.
إن قطرا من المركز وقطرا من الأطراف لا يتمتعان بنفس التمثيل من حيث الكثافة والصراحة للجمع العربي.
قطر عربي معين ـ يجب أن نقولها بصراحة ـ قد يخرج أو يـُحذف من الخريطة الرسمية دون أن يتأثر الوطن العربي, أو يضعف ككيان, لأن قوته مستمدة من حضارة عريقة وراءها القرون وإرادة لا تقهر في الحياة المشتركة, وليس جمعا لمكونات.
قد ينهض بشكل لم يعرفه في الماضي, ويصبح خلاقا ويفرض نفسه كلاعب أساسي على الساحة الدولية, دون أن يتأثر أو يتذكر تلك الخسارة.
بعض الدول العربية هي بالفعل على الهامش, ويسود فيها الصمت والسبات, والتوافق على العدم, والسلم في المأساة والعجز المسلم به أمام التحديات التي تحاصر من جميع الآفاق, إلى درجة أن البعض يعتبر أنهم وصلوا إلى حالة النخر.
الوطن العربي ككيان تخترقه التناقضات ـ البرهان الحقيقي على الحيوية والحياة ـ والصراعات المميتة. بدون أن يسترجع وحدته, التي هي شرط استرجاعه لكرامته, ليس له الحق أن يهدأ ولن يهدأ على هذا الحال. الوحدة لن تخرج من هدوء المقابر. المفارقة هي أن الوحدة,وليس غيرها, هي التي بإمكانها أن تنهي الدورة الزلزالية الحالية من التناقضات.
الفرق الجوهري بين الأقطار العربية, داخل المجموعة, يرجع ليس إلى حجم الناتج الداخلي الخام ولا إلى عدد السكان وإنما إلى إرادتهم في المشاركة داخل العمل الجماعي.
القطر من المركز يعتبر ويحس أنه مخول لمسؤولية عربية جماعية, بينما أقطار الأطراف لا تتحمل ذلك الاختيار, ونتيجة لذلك التخلي الجوهري, لم يتعامل أحد معهم حول المشاكل العربية الجامعة, إلا في حالات فجائية. على سبيل المثال: عام 1965 عندما أوعز الغربيون للحبيب بورقيبه أن يشق الصف العربي لأول مرة حول القضية الفلسطينية, أو عندما انعقد مؤتمر قمة في الرباط واضطر الحاضرون إلى مجاملة دبلوماسية بتعيين ملك المغرب رئيسا للجنة القدس.
يصعب على دولة أجنبية أو مجموعة دول أجنبية أن تتدارس مشاكل عربية جماعية مع المغرب أو تونس, بينما المسألة لن تكون غير لائقة إذا فعلوها مع الكويت أو البحرين. لماذا؟
السبب أشير إليه أعلاه, بأنه لا يرجع إلى الحجم الديمغرافي, ولا الاقتصادي, وحتى ليس مركزية جغرافية. المسألة هي مسألة اختيار سياسي, وأهلية ثقافية, وأكثر من كل ذلك هي ثقة في النفس.
تلك الثقة في النفس حاسمة. وأهل الأطراف لم يبحثوا عنها ولم يحصلوا عليها, إلا في حالات نادرة.
إن النخبة في أقطار الأطراف كـُـوِّنـَت وأحيانا نـُحِتـَت خارج لغتها وثقافتها وتضررت بدرجة أو أخرى بالاجتثاث الثقافي, ومن ثم الشعور بضعف الروابط الجماعية مع باقي العرب. إنهم غير متوازنين نتيجة لعدم تماهيهم مع ثقافتهم, ذلك الإرث المعنوي الذي يقوي ويعطي للأفراد والدول كثافة وصلابة, والذي يقول فيه الكاتب الكبير آندريه ملروه: " إن الثقافة هي التي تجيب الإنسان عندما يتساءل عن ماذا يفعل على الأرض ", ويضيف: " إن ما أودعه البشر تحت كلمة ثقافة يتلخص في فكرة واحدة: تحويل المصير إلى ضمير".
إن هواري بومدين, وحده, كان لا يشعر بهذه العقدة وبرهن على ذلك أكثر من مرة, وخاصة بعد هزيمة 1967 عندما توجه مباشرة إلى موسكو دون أن تنتدبه أي هيئة, انتدبه فقط واجبه ومسؤوليته اتجاه إخوانه العرب. وحدّث بومدين السوفييت, وهم أصدقاء العرب, بلغة صريحة, لاذعة, وهو يجيد تلك اللغة أكثر من غيره, وتفاعل السوفييت مع تلك المصارحة ووفروا لمصر السلاح المتطور الذي سيمكن مصر من القيام, ابتداء من سنة 1968, بما سيعرف " بحرب الاستنزاف ", وفي النهاية بحرب أكتوبر 1973 التي حررت قناة السويس, برمزيتها وقربها إلى قلوب جميع العرب.
حقا إن عرب الأطراف يعرفون التذكير بعروبتهم عندما يتوقون إلى مساعدات مالية ـ والحق أن عرب المركز لم يبخلوا حيثما كان إخوانهم في الحاجة ـ أو كانوا وسط صعوبات سياسية تحتاج إلى المساندة.
هذا كان بالضبط وضع المغرب عندما وجد نفسه معزولا بعد احتلاله للصحراء الغربية. لم يتورع عن الدفاع عن قضيته باسم الوحدة العربية ـ من يصدق؟ ـ أمام عراق أحمد حسن البكر وسوريا حافظ أسد, مستنكرا أن نضيف حدودا إلى الحدود التي تفرق العرب. ولكن الاحتلال مناف في حد ذاته للوحدة العربية. الوحدةالعربية هي اختيارية.
كان العراق قد وقع في الشرك نتيجة لهذه السفسطة, بينما بقيت سوريا مترددة, وحائرة بين مبدإ الوحدة العالي في سماء القوميين و الصيغة المنافية للوحدة.
ما قاله منظرو الوحدة الواعون هو أن أي وحدة, حتى ولو كانت رجعية, هي أفضل من تجزئة تقدمية. ولكن, أبدا, لا وحدة بالقوة.
جاء دور موريتانيا, هي الأخرى, عام 1989, بمناسبة الأزمة مع السنغال, لتذكر بعربيتها, بل بعروبتها, عندما شعرت بالعزلة والخطر. وحلت, من المحيط إلى الخليج بالدواوين الرسمية صيحات الاستغاثة المتضرعة ووصل مبعوثوها المذعورون يفصلون ويكررون مرافعة ضد السنغال, ليست لغتها مفهومة دائما.
إن المسؤولين الموريتانيين المتعودين على العمل باللغة الفرنسية, هم بالضرورة غير متمرسين على الكلام باللغة السياسية الشفهية, المختلفة عن الدارجة وهي دون اللغة الأدبية, مع أن لها ضوابط, ويجدون عادة, صعوبة كأداء في تقديم عرض أو تحليل مطول يمتاز بالانسجام, فيلجأون إلى عبارة من اللهجة المحلية غير معروفة, أو إلى كلمات فرنسية تضيف المزيد من الغموض. إن خطابهم يـُقدَّرُ أكثر منه يـُفهم.
ومهما يكن فإن صدام حسين قرر مساندة موريتانيا في تلك الظروف, ومن الطبيعي أن نتصور أنه تذكر حادثة أحد سادة قريش الشهيرين, صفوان بن أمية, يوم معركة حنين.
كان صفوان في ذلك الوقت يتقاسم الشرك مع قبيلة هوازن ولكن عندما قيل له إن جيش الرسول, قد هزم, ثار بقوله: " ويلك أتبشرني بظهور الأعراب! والله لإن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن".
بما أن صدام لم يجد الفرصة لكتابة مذكراته فإننا لم نعرف ما كان يجول في خاطره من أحاسيس وأفكار أمام مبعوثين دفعهم الرعب إلى عدم الاكتراث بكرامتهم إلى درجة أن يطلبوا منه العون في وقت كان رفاقه البعثيونالموريتانيون وراء القضبان. إنهم وصلوا إلى مستوى واطئ من إذلال النفس وإخزائها.
إن بلدان الأطراف تواجه بنفس الدرجة مع البلدان العربية الأخرى دمار وآثار الحرب العامة والمستمرة التي يشنها الغرب ضد العرب دون تمييز.
إذا كان بعض الحكام الحاليين لا يعرفون من هم, فإن الغرب يعرف من هو شعبهم.
في هذه الحرب المستعرة فإن العرب في مجملهم هم المغلوبون إلى حد الساعة, ولكن المفارقة أن الغرب ليس هو المنتصر. مع أنه غير منتصر فإن الغرب قادر على القيام بحروب مدمرة وسيستمر في حروب قتالة, في المستقبل, هنا وفي بقاع أخرى من المعمورة. إن حرابيتهوحبه للحرب جوهري, في ذاته, بنيوي.
بعد أن قاد العالم إلى السباق المفلس من أجل السلاح النووي, والصواريخ العابرة للقارات, والصواريخ المضادة للصواريخ, والرؤوس النووية المتعددة وذات الاتجاهات المختلفة "مرف ", والبحث عن " السلاح المطلق " وتحضير القنبلة النيترونية التي " تقتل الرضيع دون أن تضر بمركبته", فإن الغرب يتوجه بالعالم الآن إلى سباق جديد من أجل الصواريخ "الذكية", والأسلحة المتحكـَّم فيها عن بعد, دون أن ننسى الطائرات الخفية التي من بينها الطائرة الأمريكية ف- 35, تحت الإنجاز والتي وصلت تكلفتها حتى الآن إلى 400 مليار دولار. ولكن آخر زلة هي " جيش الفضاء".
من أجل السلم لاشيء .. من أجل التفاهم مع الآخرين لا شيء .. من أجل تخفيف معاناة "أصدقائهم" ـ الأفارقة, مثلا ـ أو التعويض لضحاياهم لاشيء.
ليس من المهم أن نعرف " نـَحـْوَ " الحروب الغربية كما سطره ماركس ولينين, أو أن تكون أذهاننا لديها حساسية من الإيديولوجيا, التي هي مستوى معقد من التجريد لتفسير الحقائق الاجتماعية لا سبيل إلى أذهاننا إليه, لأنها موجهة منذ الصغر في اتجاه آخر, أو نعتبر ببساطة أن الأمور تجري هكذا كالقدر. وعلى كل حال فإن النظرتين تؤديان إلى نفس النتيجة حتى ولو أن واحدة حسيرة والأخرى ثاقبة.
الشيء الذي لا يقبل الشك هو أنه كل ما نمت قوة الغرب الاقتصادية, والتقنية, كلما زاد نزوعه إلى الحرب. المفارقةأنه, في نفس الوقت, لم يعد قادرا على انتزاع النصر, وإذا انتصر عسكريا فإنه يخسر سياسيا. لماذا؟
لأنه لا يخوض حربا واحدة عادلة. لم يعد يخوض حروبا على حدوده, من أجل تعديل حدود ظالمة ولا من أجل استرجاع ولاية مغصوبة, ولا للرد على عدوان, ولا انتهاكسيادته أو استرجاع حق مغتصب .. كل حروبه بعيدة وتبريرها غير مقنع, وسببها غامض على شعوبه, وحتى موقعها مبهم, أحيانا, على الخارطة بالنسبة لتلك الشعوب, وفي أغلب الأحيان الشعوب الغربية مرتابة في ما يخص وجاهة وفائدة تلك التدخلات العسكرية.
على العموم, الشعوب الغربية رافضة لهذه الحروب وتربيتها وأخلاقها تشمئز من سيلان الدماء والظلم.
علاوة على هذا, فإن الحرب ليست جولة سياحية والشعوب الغربية تفقد فيها أبناء, بدون سبب, والكثير من المال الذي تنظر إليه بريبة كبيرة وتعتبره مخصوما على حساب إمكانات تحسين وتطوير سعادتها.
المجندون أنفسهم لا يريدون الموت من أجل غاية غامضة, ولا يريدون الموت مهما كان, أما المتطوعون فإنهم أصبحوا سلعة نادرة لا يعثر عليها, مثل الكبريت الأحمر الذي يذكر ولا يرى. إن المواطنين الغربيين يريدون ببساطة أن يعيشوا في السلم وينظموا حياة رفاهية.
ولكن دافع الحرب هو الذي يشكل أجنحتها ويؤدي بالناس, إما بمفعول الحماس لقضية أو بالحقد على عدو,إلى الموت والتفاني. العسكريون الغربيون يـُدفعون للحرب دون أن ينعشهم أي من هذه الأحاسيس.
أمام هذا الطريق المسدود, يعوض عن البشر بالأجهزة والآليات والتقنيات والإفراط في النفقات. إلا أن الحرب يخوضها رجال وليس آليات, ويخوضها خاصة مجتمع محفز ومعبأ, مستعد للتضحيات اللازمة ومساند لأبنائه ويدفعهم إلى الحرب والتضحية.
عندما تكون الحرب مجرد عملية تخص الفئة المتنفذة: الحكومة, والأركان, والمخابرات الخارجية, وجماعات الضغط من بائعي السلاح أو المؤسسات المنتفعة من الحرب, فإن الشعوب ستكون, لزوما, مترددة ومن ثم قلقة. وبتزايد وتيرة الخسائر: عدد النعوش, والجرحى العائدين إلى الوطن, وابتلاع المبالغ الخيالية دون نتيجة, فإن كل الحظوظ والاحتمالات تؤدي إلى أن الشعوب ستغتاظوتولي ظهرها للحرب, وفي بعض الحالات ترغم الحكومات على التراجع في أوقات حرجة, في وسط المعبر أو الفيضان, مع فقدان ماء الوجه والمصداقية, ومع احتمال ـ ربما ـ المحاسبة فيما يخص الخسائر والأضرار التي لحقت بالاقتصاد والعملة ومستوى المعيشة والقدرة الشرائية. ويبقى حتى خطر سيف دامو كليس ممكنا بالمحاسبة في خانة حقوق الإنسان... إن المسؤولين الكبار في الغرب لم يعودوا في تلك الحصانة المطلقة ولم يعودوا في مأمن من المحاسبة والمحاكمة, وسلطتهم تتآكل وقد أصبحت هزيلة وغير مستقرة. ويتساءل المرء ـ أحيانا ـ هل تبادلوا شيئا في هذا المضمار الصعب مع زعماء الدول المتخلفة في السبعينات والثمانينات.
إن حروب الغربيين اتخذت, منذ مدة غير بعيدة, منحى الضربات الجوية والصاروخية, لأن مواطنيهم لا يقبلون الموت في الحرب. في بعض مناطق العالم الثالث يفتعلون حروبا بالنيابة, وسيستمرون في ذلك الاتجاه لأن المقاتلين محليون وبالنتيجة الموتى والخسائر هي في البنية التحتية الهزيلة للدول الفقيرة.
إن نظامهم الاقتصادي والاجتماعي هو الذي أنتج لهم تلك العوائق التي تحاصرهم مثل ذلك الكائن الحي الذي تحاصره فضلاته لكثرتها وتمنعه في النهاية من التقدم.
ـ يتواصل غدا ـ