وداعا اصويفيه
(ألو..الماميو... كيف حالكم. يقول المتصل: اصويفية رجعت من العمرة كما كان مقررا هذا المساء...
" لقد انتقلتْ إلى رحمة الله منذُ لحظات.."
بهذه الكلمات نعى إليَّ "أحمد" تلك المرأة التي أحسبُها ابنة أخي المحبوبة، والصديقة الوفية، والشريكة وأمينة السر..
بالرغم من ذلك فقد كان الخبر غامضا، غامضا جدا... وقد رفض عقلي تقبل الحقيقة المؤلمة..
" آلو أحمد... لم أفهم ما تقول.. "اصويفية" رجعت..وماذا بعد ذلك ؟؟ " بهذا السؤال يحاول عقلي ترتيب عدم الفهم لحقيقة الخبر المؤلم.. الآن يجب الخنوع والخضوع للواقع.. لقد غادرتنا صديقتُنا بكل ألم.. بعد لحظات من الصمت وضعتُ جميعَ أسلحةِ الرفض وقلت: " إنا لله وإنا إليه راجعون"
بعد ذلك غرقتُ في بحر من الأدعية والابتهالات والترحُّم على الفقيدة، في الوقت الذي كانت زوجتي تقود السيارة إلى جانبي وتستفسر مني بإلحاح: " ماذا يجري؟ ما ذا جرى لاصويفية؟ ..من الذي توفي ؟؟ "
كم هي هشة هذه الحياة .. لقد كنت بعيدا جدا من أن أتصور أني لن أرى ثانيا تلك التي كانت معي في مكتبي ساعتين قبل سفرها إلى تلك (العمرة) والتى تصادفت مع العشر الأواخر من رمضان..بالرغم من أنني أدرك تمام الإدراك أن الموت ليس أقرب إلى المرْضَى من الأصِحاء.. (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر..)، إن الله جل شأنه يذكرنا بهذه الحقيقة بشكل طبيعي لعلمه تعالى أن الإنسان كثير النسيان.
لقد رحلت (اصويفية) تماما كما كانت تتمنى.. تلك المرأة المؤمنة المخلصة لم تكن تكرر إلا الدعاءين التاليين: (اللهم أسألك حسن الخاتمة.. اللهم أسلك الفرحَ يوم لقائك..) كانت تلك الجمل تنتهي عادة بقولها : (بإذن الله..)
لقد كنتُ أكبرَ منها سنا، أو هي منحتني التقدير والإكبار، الشيء الذي سمح لي دائما بالتأثير على قراراتها..وبعضَ الأحيان على رأيِها. لا أذكر يوما أنها خالفت رأيي إلا مرة واحدة. حيث اقترحتُ عليها تأخير ذهابها إلى العمرة في انتظار الحج الأكبر، ولتسوية الملفات الإدارية الصعبة المنوطة بها والتي لاغنى عن دور الفقيدة في معالجتها..
لقد ردت علي بصوت مليء بالحسرة بسبب عدم امتثال رأيي قائلة: " أنا جد متأسفة، لكنني لا أستطيع.. لقد قررت منذ سنة أن أذهب إلى العمرة..إنه منعطف حاسم في حياتي.. لا يمكنني التخلي عن هدفي هذا. لكن تأكدْ، بإذن الله، أن كل شيء سيكون على ما يرام.. فسأجد الوقت لإغلاق الملفات والأولويات المستعجلة والباقي ينتظر قدومي بدون خسائر.."
لقد كنت مطمئنا لأنني لم أكن أعلم أنها (عمرة الوداع).
في علاقتنا الشخصية كنت أسميها باسم (الطاهرة). لا أدري كيف أسميتُها ذلك الاسم، غير أنني اليوم تأكدت أني كنت على حق.
كم هو صعب أن نتصور وزارة الإسكان والعمران والاستصلاح الترابي دون وجود (اصويفية). لقد كانت ركيزة مهنية لتلك الوزارة، فقد أوتيت ملكة نادرة في إدارة فريق العمل في جو من المهنية والتكافل قل نظيره. وبالرغم من أنها تدير مديرية مركزية، لكنها كانت تقدم الدعم للجميع في مجال الميزانية إعدادا واعتمادا.. وقد مثلت دائما الذاكرة الهيكلية الحية للوزارة، وكانت في العمق بالنسبة لجميع الملفات. لقد كان بإمكانها، وكانت تعرف أن تنضم للجميع في اللحظة الحاسمة، ودائما لتحقيق الهدف الأسمى. لقد تمثلت قوتها الأساسية في شفافيتها.
لم تكن (اصويفية) إلا امرأة مهنية مقتدرة. وكانت رمزا للمحبة والإنسانية والتواضع الجم، والتقرب الحميم من جميع العمال بعيدا عن بهارج الوظيفة والألقاب، وقد وسِعت بتلك الأخلاق العالية الفقراء والزوار التائهين الباحثين عن الخدمة العمومية.
لقد صدق المختار فال الذي سماها (الأم الشجاعة). تصوروا أن شابة أرملة في الثلاثين من عمرها، ولدت و في فمها ملعقة ذهب، تتعهد باحترام ذكرى زوجها من خلال التضحية الذاتية بنفسها وروحها لتنشئة أبنائها بحيث لا يشعرون بفقد أبيهم، ولكي لا يقولوا يوما: لوكان أبونا حيا لفعل كذا وكذا.. لقد منحها الله درجة عالية من التوفيق والسداد.
كل المنتسبين لوزارة الإسكان يشعرون اليوم باليتم، إلا أنهم مطمئنون بالخاتمة الحسنة التي من الله بها على الفقيدة اصويفية.
نرجو الله العلي القدير أن يمن على ذويها بالقدر الكافي من الصبر والشجاعة من أجل الوفاء لها بجزء مما منحتنا: حيث ندعو لها أن يكون الفردوس مأواها.
نامي قريرة العين يا صديقتي..
وليتغمدكِ الله بالمغفرة ولتكن جنانه مثواكِ، إلى جانب حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وداعا اصويفيه
وان بيران...
ترجمة الشاعر محمد بن بدي